حينما سألت الأمين العلمي للجنة الأوروبية للإشعاع البروفيسور كريس باسبي في حواري الذي أجريته معه في الأسبوع الماضي في برنامجي بلا حدود حول نتائج أبحاثه وفريقه العلمي حول أثر الأسلحة التي استخدمتها القوات الأمريكية في حربها علي مدينة الفلوجة العراقية عن أسباب قيامه بهذه الأبحاث التي تعرضه لمزيد من الضغوط ومزيد من التهميش العلمي من قبل المجلات العلمية العريقة التي كانت تتلقف نتائج أبحاثه قبل ذلك وتتسابق في نشرها قال: إني أحاول أن أمنع المزيد من الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية، لقد تربيت علي قول الحقيقة وقول الحقيقة أصبح مريراً الآن ولم يعد لدي مجال للتراجع، أعلم أني أدفع ثمناً غالياً جراء ما أقوم به لكني لن أتوقف، إن هناك جرائم ترتكب بحق الشعب العراقي منذ الحرب الأولي في العام 1990 أعلنت عنها، وهناك جرائم مازالت ترتكب، وما قامت به القوات الأمريكية في مدينة الفلوجة في العام 2004 يفوق في نتائجه ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية لمدينة هيروشيما اليابانية التي مازال سكانها يتجرعون إلي الآن نتائج تلك الجريمة البشعة من خلال استخدام القنبلة النووية للمرة الأولي، ما حدث في الفلوجة كان أفظع من حيث النتائج التي توصلنا إليها ويجب كعلماء أن نتكلم حتي نمنع المزيد من الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية . يحدث هذا من عالم بريطاني في وقت تسعي فيه السلطات الأمريكية ومعها سلطات الحكومة العراقية التابعة لها لمنع أي تحقيقات علمية تفضح تلك الجريمة التي ارتكبت بحق سكان مدينة الفلوجة في العراق، وعالم مثل باسبي معروف في الأوساط الأكاديمية الدولية كواحد من أهم خبراء تأثير الأشعاع في صحة الإنسان في العالم حينما يحمل علي عاتقه هذا الأمر، فإنه يضع نفسه في مواجهة مع لوبي السلاح النووي والأسلحة الفتاكة ويعرض نفسه للحرمان من كثير من الامتيازات التي يحظي بها العلماء، فقد سبق لباسبي من خلال مكانته العلمية أن أدلي بشهادته عدة مرات أمام الكونجرس الأمريكي حول أثر الإشعاعات التي تصدر عن بعض المصانع الأمريكية في سكان تلك المناطق، وحصل سكان تلك المناطق علي تعويضات هائلة من الحكومة الأمريكية، لكن لا نعرف من الذي يمكن أن يعوض الشعب العراقي عما تعرض له من جرائم في ظل تواطؤ حكومته مع الاحتلال، وباسبي لم يقف عند حد العراق ولكنه ذهب إلي جنوب لبنان بعد الاعتداء الإسرائيلي في العام 2006 وأخذ عينات وحللها وأعلن عن نتائجها، كما حاول الذهاب إلي غزة في شهر يناير من العام 2009 في أعقاب الحرب الإسرائيلية عليها، ولكن السلطات المصرية منعته للأسف، وبقي عدة أيام هناك ثم استعان بفريق طبي جمع له العينات التي يريدها، وقام بتحليلها، وأعلن عن نتائجها في حوار سابق معي في العام الماضي أيضاً في البرنامج، وليس باسبي وحده الذي يفعل ذلك، بل هناك علماء غربيون آخرون هزهم ما تقوم به الولاياتالمتحدة وحلفاؤها من جرائم باتت معظمها تتم في حق العرب والمسلمين وتؤدي إلي أمراض فتاكة قاتلة ستظل تتوارثها الأجيال ومياه وتربة ملوثة، وهذه الأماكن شملت حتي الآن أفغانستان والعراق وغزة ولبنان، حتي حرب مصر مع إسرائيل في العام 1973 استخدمت فيها القوات الإسرائيلية قذائف اليورانيوم المنضب التي تملأ صحراء سيناء وتؤدي إلي أذي كثير لمن يعيشون هناك حسب رأي العلماء، كما أن حرب الخليج الأولي دمرت مناطق كثيرة في الكويت وشمال السعودية بمحاذاة حدودها مع العراق وجعلتها - حسب رأي البروفيسور آصف دراكوفيتش مكتشف مرض أعراض حرب الخليج، والبروفيسور دوج روكه المسئول السابق في الجيش الأمريكي عن تنظيف آثار اليورانيوم - مناطق غير صالحة للحياة الآدمية، لأن التربة والمياة والهواء صارت ملوثة بها . كل هؤلاء العلماء وغيرهم يتعرضون لضغوط هائلة الآن من قبل لوبيات الأسلحة ومن قبل سلطات الدول التي تستخدم هذه المواد المشعة ضد سكان هذه المناطق حتي يكفوا عن كشف الحقيقة وتقديمها للناس، لكنهم قالوا ليس أمامنا خيار وبعضهم دفع ثمناً باهظاً مثل دوج روكه وآصف دراكوفيتش، الذين تم عزلهم من وظائفهم ومنعهم من التواصل مع وسائل الإعلام وتجريدهم من كثير من وضعيتهم العلمية والاجتماعية التي كانوا يتمتعون بها، هذه المحاولات من قبل هؤلاء العلماء لمنع المزيد من الجرائم لم تتوقف عندهم، وإنما سعي كثير من الناس العاديين للقيام بها مثل جماعات أوقفوا الحرب التي قادت عشرات المظاهرات ضد تلك الحروب وما يرتكب فيها من جرائم، وتجمعات أخري كثيرة، لكن المحاولة التي قام بها الجندي البريطاني السابق إليجاه سميث مع خمسة نشطاء آخرين في شهر يناير من العام 2009 مثلت نوعا من الاحتجاج من نوع خاص، حيث قام مع خمسة من رفاقه باقتحام مصنع إيدوا للسلاح في بريطانيا وقاموا بتحطيم أجهزة ومعدات بلغت قيمتها مائتين وخمسين مليون جنيه إسترليني قبل أن تصل الشرطة وتقوم باعتقالهم، فقد أعلنوا أن هدفهم كان إيقاف الجرائم التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني في غزة في ذلك الوقت حيث إن القذائف التي تستخدمها طائرات إف 16 وطائرات «أباتش» الأمريكية التي كانت تقصف غزة آنذاك كانت تصنع في هذا المصنع، ويحاكم سميث الآن مع زملائه، لكنه يصر أن هدفه كان منع تلك الجرائم . إن هذه المحاولات رغم أنها تبدو أنها لن تغير شيئا فإنها تغير الكثير ويكفي أن يسجل الإنسان موقفاً في التاريخ أنه سعي من خلال موقعه أياً كان لإيقاف تلك الجرائم.