نحن بلا شك فى حاجة لخلق بيئة مشجعة على الاستثمار المحلى والعربى والأجنبى، فاحتياجاتنا الاقتصادية كثيرة، وطموحنا لتحقيق نهضة حقيقية كبير، وكل إضافة لقوتنا الاقتصادية تعنى المزيد من الإنتاج ومن فرص العمل، وهو أمر مطلوب بشدة فى ظروفنا الحالية. لكن ذلك لا ينبغى أن يتم بنفس الصورة التى مررنا بها قبل الثورة.. حيث ذهب عائد التنمية إلى قلة من المحاسيب وبقيت جموع الشعب تعانى من الفقر والعوز، وحيث تحول الأمر -فى بعض جوانبه- إلى عملية نهب غير مسبوقة للمال العام، خصوصا بعد أن تم الزواج المحرم بين السلطة والبزنس! وأظن أن الرئيس السيسى حين أطلق صندوق «تحيا مصر» كان يعطى فرصة للبعض لكى يصححوا الخطأ ويعوضوا الشعب عما جرى، لكن النتائج تقول بوضوح: إن ما أُخذ بالفساد أو التلاعب لن يعود إلا بالقانون. وأننا لن نستطيع البدء فى صفحة جديدة يتعاون فيها الجميع من أجل نهضة حقيقية لمصر، قبل أن نغلق الصفحة القديمة بطريقة صحيحة، وبما يعيد للدولة حقوقها الضائعة، ويطمئن كل مواطن على أن دولة الفساد قد ولت، وأن عدالة القانون وحدها هى السيد والحكم. ملف أرض الدولة المنهوبة وحده يوفر للدولة أكثر مما كان مطلوبًا من صندوق «تحيا مصر» وهو مئة مليار جنيه. وقبل أيام قالت الحكومة إنها ستتخذ الخطوات التنفيذية لاستخلاص حقوق الدولة فى أراضى طريق القاهرة - إسكندرية، وطريق القاهرة - الإسماعيلية، الصحراويين، والتى بيعت بأرخض الأسعار للمحظوظين لكى يستصلحوها ويحولوها إلى أرض زراعية منتجة، فإذا بها بقدرة قادر تتحول إلى منتجعات سكنية فاخرة!! والمبالغ المطلوبة وفقًا للقواعد التى وصفت لتقنين المخالفات فى هاتين المنطقتين فقط تتجاوز 26 مليار جنيه، وما زالت المماطلة هى السائدة من أصحاب المصلحة، رغم أنهم حققوا أضعاف هذا المبلغ أرباحًا غير مستحقة.. لكن من شبّ على النهب شاب عليه! مثال آخر فى منطقة أخرى هى المنطقة الصناعية فى شمال غرب السويس. حيث ما زال أصحاب النفوذ فى ما قبل 25 يناير «يناضلون» من أجل إلغاء قرار صدر فى عهد حكومة الجنزورى قبل عامين بسحب 26 مليون متر مربع من مستثمرين لم يلتزموا بتنميتها منذ أن نجحوا فى الحصول عليها قبل سبع سنوات من هذا التاريخ بيع معظمها فى هذه المنطقة الصناعية الهامة والواعدة. والحقيقة أن قصة الحصول على هذه الأراضى كانت فضيحة فى حد ذاتها، حيث وزعت على «أصحاب النصيب!» بسعر لا يتجاوز خمسة جنيهات للمتر (!!) والأدهى أنهم منحوا حق بيع الأرض والتصرف فيها فور سدادهم الدفعة المقدمة من ثمن الأرض وهى 10٪ أى بعد دفع خمسين قرشًا للمتر فقط لا غير! كتبت عن هذه الفضيحة قبل ثورة يناير، ورويت كيف ساقتنى الصدفة فى يوم واحد لموعدين كشفا لى الأبعاد المأساوية لقصة نهب الأرض فى مصر. فى الموعد الأول كنت مع أحد الوزراء والمسؤولين، وكان يشكو من عدم توافر الأرض الصناعية لمشروعات عديدة يعرضها المستثمرون الأجانب. وفى الموعد الثانى فى نفس اليوم كنت مع مسؤول عن هيئة كبيرة، وكان يشكو من أن أحد «المحاسيب الكبار» من أصحاب النفوذ يطلب منه شراء الأرض التى حصل عليها فى هذه المنطقة، وأن يدفع له مليون جنيه فورًا عن كل فدان.. كان هذا المسؤول يؤكد أنه لن يقبل أن يكون شريكًا فى هذا الفساد، وكان يعرف أن معنى ذلك أن يجىء إلى مكانه مَن يقبل شاكرًا راضيًا!! لماذا أثير القضية الآن؟! لأننا نريد فتح صفحة جديدة نتضامن فيها جميعًا للعبور بالوطن إلى مستقبل أفضل، نملك كل أدواته. لكن البعض يتصور أن ثمن مشاركته لنا هو أن نتسامح مع فساد قديم، وأن نفتح الباب أمامه ليعيد إنتاج هذا الفساد من جديد، دون أن يدرك أنه بذلك يلعب بالنار.. فلا «دولة المحاسيب» ستعود، ولا الملايين التى ثارت مرتين فى ثلاث سنوات، ستقبل أن تتحمل العبء وحدها مرة أخرى، بينما من نهبوا الدولة قبل الثورة يستعدون لنهبها مرة أخرى!!