يبدو أن أنصار الدولة المدنية في مصر يتناقصون يوماً بعد يوم، وأعني بأنصار الدولة المدنية أولئك الذين يؤمنون بدولة قوامها المواطنة ومرجعيتها القانون، دولة تقوم علي أساس قوانين مدنية تتغير بتغير الأحوال وتماشي تطور المجتمع، قوانين تضعها المجالس النيابية المنتخبة، ويكون جميع أبناء الوطن متساوين أمامها بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الأصل. وللأسف فإن أعداء الدولة المدنية لم يعودوا أفراداً متفرقين أو جماعات ذات مرجعيات سياسية دينية أو طائفية أو مؤسسات دينية، بل إن منظمات مجتمع مدني ومؤسسات يفترض أن تكون مدنية بحكم تكوينها تتحول إلي معاول هدم لما تبقي من أسس الدولة المدنية. إن لم يكن هذا ما يحدث، فبماذا يمكن أن نفسر ما قام به اتحاد الناشرين المصريين، والاتحاد مؤسسة من مؤسسات المجتمع تضم في عضويتها أصحاب دور النشر المصرية، وتدافع عن مصالحهم، إنه اتحاد لأصحاب رؤوس الأموال في مجال صناعة من أهم الصناعات الثقافية وهي صناعة الكتاب والنشر، والاتحاد مؤسسة وطنية مصرية يفترض أن تلتزم بالقوانين المصرية. ماذا فعل الاتحاد؟ وكيف يسهم في هدم أسس الدولة المدنية؟ نشرت جريدة« أخبار الأدب» في عددها الأخير خبراً مفاده أن دار الإفتاء المصرية قد أصدرت فتوي رسمية بتحريم «انتحال حقوق الملكية الفكرية» من خلال نشر الكتب بأي طريقة كانت، دون مواققة من صاحب الكتاب. ووفقاً للخبر المنشور فإن تلك الفتوي قد جاءت رداً علي الخطاب الذي أرسله اتحاد الناشرين المصريين، يطلب فيه رأي دار الإفتاء في حكم من يقوم بطبع أو نشر أو توزيع أو شراء كتاب لمؤلف أو دارنشر تملك حق طبع ونشر هذا الكتاب بأي صورة من صور النشر المقروءة والإلكترونية دون موافقة أو إذن كتابي من المؤلف صاحب العمل أو الدار الناشرة له، مما يطلق عليه اعتداء علي حقوق الملكية الفكرية. بالطبع جاء الرد من دار الإفتاء ليؤكد حرمانية التعدي علي حقوق الملكية الفكرية وفقاً لأسانيد شرعية عديدة. أين المشكلة؟ المشكلة ببساطة، أن مصر بها قانون لحماية الملكية الفكرية، يجرم الاعتداء علي حقوق المؤلف، كما يجرم الاعتداء علي حقوق الناشر، إذا كان الناشر متعاقداً مع المؤلف، وسرقة حقوق الملكية الفكرية، والقرصنة في مجال الكتاب والنشر، سواء بالنشر الورقي أو الإلكتروني أمور مجرمة قانوناً، ولها عقوبات محددة. إن طلب الفتوي الذي تقدم به اتحاد الناشرين إقحام للمؤسسة الدينية في أمور دنيوية، ويزيد الأمر سوءاً ما تردد عن أن الاتحاد قد تقدم بطلب فتوي مماثلة من الكنيسة الأرثوذكسية، ولا أعرف لماذا نسي الاتحاد أن يطلب فتاوي من الكنيستين الإنجيلية والكاثوليكية، ومن حاخامخانة اليهود بالمرة. إن الحياة الثقافية في مصر تعاني من تغول سلطة المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية ومن تدخلاتها التي تطال حرية الإبداع، فإذ باتحاد الناشرين الذي يفترض أنه مؤسسة مدنية يستدعي لنا المؤسسات الدينية لتفتي لنا في أمور صناعة الكتاب والنشر، في أمور حسمها القانون، الذي هو قانون مدني، في أمور لا تحتاج لفتوي، ولا تحتاج لنجرمها لمنطق الحلال والحرام. وفي الحقيقة لم تقنعني علي الإطلاق ردود الصديق الأستاذ محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين علي الانتقادات التي وجهت للاتحاد بسبب طلب فتوي دار الإفتاء، تلك الردود التي نشرتها جريدة «الأهرام المسائي» في صفحتها الثقافية، والتي أكد فيها أنه المسئول شخصياً عن طلب الفتوي، وقال: إن الدافع وراء طلب الفتوي الفشل في ملاحقة مزوري الكتب، وإنه في الفترة الأخيرة تفشي التزوير في مصر أكثر من الدول العربية ، فقررنا أن نبحث عن طريق آخر فوجدنا أن الوطن العربي أكثر من 90% منه متمسك بقيمه الدينية، فقلنا والكلام للأستاذ رشاد ربما يكون الوازع الديني أحد الأسباب التي تحد من هذا التزوير! إن العلاج المباشر والواضح لمشكلة القرصنة تطبيق القانون، وليس استصدار الفتاوي، وأظن أن رئيس اتحاد الناشرين يعلم أن أكثر من يباشرون القرصنة في مصر دور نشر تنسب نفسها للدين. لقد أكد رئيس الاتحاد في حديثه للمسائي علي أن الاتحاد سيبذل جهوداً مع الجهات المعنية في الدولة لملاحقة المخالفين وتطبيق القانون عليهم، وهذا هو الطريق الصحيح، أما طريق استصدار الفتاوي فلن يؤدي إلا إلي المساهمة في هدم أسس الدولة المدنية، أما مشروع رئيس الاتحاد لمنع غير الأعضاء من النشر فله حديث آخر.