الزراعة هى أول فعل حضارى مارسه الإنسان من أجل تلبية متطلباته، ومثلما لم تبخل الأرض بالغذاء على الإنسان، لم يبخل الفلاح أيضا عن بذل العرق والكد لتوفير حياة آمنة لأخيه ساكن المدينة، لكنه لم يحظ فى مقابل ذلك إلا بعقود طويلة عاشها فى السخرة فى ظل الأنظمة الإقطاعية التى حكمته وتحكمت فيه، إلى أن جاء الرئيس جمال عبد الناصر ليعتبر اليوم الموافق 9 سبتمبر من كل عام، عيدًا للفلاح، يرد له فيه اعتباره، وليواكب صدور أول قانون للإصلاح الزراعى، والذى يقوم على تحديد سقف للملكية الزراعية، فى محاولة لإعادة الحقوق الضائعة إلى الفلاح الذى عاش أجيرًا يعانى ظلم الولاة المستبدين. فى هذا اليوم قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتوزيع عقود ملكية للأراضى الزراعية التى استقطعت من الإقطاعيين أصحاب المساحات الشاسعة، ليتملكها الفلاحون الصغار بمعدل 5 أفدنة لكل واحد منهم، وفى هذا التحقيق، يلقى «الدستور الأصلي» الضوء على مشكلات بنك التنمية الزراعى، والأسمدة، والرى، وتسويق المحاصيل، ومشكلات أخرى تعكر صفو حياة الفلاح فى عيده الثانى والستين. ديون بنك التنمية.. الأزمة مستمرة من المؤسف أن نعلم أن هناك 22 ألف مزارع، صدرت ضدهم أحكام بالحبس، بسبب ديون البنك الزراعى، بينما هناك 93 ألف مزارع آخر، تشردوا بسبب قانون العلاقة بين المالك والمستأجر، ويعانى الفلاح من عدة أزمات، من بينها قيام الحكومة ببيع مستلزمات الإنتاج له بالأسعار العالمية، ثم تشترى منه الإنتاج بالأسعار المحلية، فضلا عن الديون المثقل بها كاهله لدى بنك التنمية والائتمان الزراعى. الدكتور يحيى متولى خليل، أستاذ الاقتصاد الزراعى بالمركز القومى للبحوث، يقول إن أهم مطالب الفلاح المصرى هو صندوق لموازنة الأسعار حتى يعوضه عن الخسائر التى يتعرض إليها نتيجة تقلب الأسعار العالمية، أو الخسائر المتوقعة نتيجة أمراض النبات، وغيرها من العوامل الطبيعية التى يمكن أن تؤثر عليه خلال موسم الزراعة، وطالب خليل بضرورة أن تدعم الحكومة المزارع المصرى، مثلما يحدث فى كل دول العالم المتقدم، وأن يعود بنك التنمية والائتمان الزراعى إلى دوره كما كان عندما كان يعرف ببنك التسليف، وكان يقرض الفلاح ثمن مستلزمات الإنتاج، ويحصلها بعد الحصاد، أما الآن فأصبح بنكا تجاريا يحصل فائدة أعلى من البنوك الاستثمارية، إذ يصل سعر الفائدة إلى 15% بينما فى البنوك الأخرى 10%. الدكتور عبد الله المأمون، الباحث بمركز الأرض لحقوق الإنسان، يقول إن أزمة بدأت مع القانون رقم 1996 لسنة 1992، وهو القانون المعروف بقانون العلاقة بين المالك والمستأجر، الذى أصدره وزير الزراعة الأسبق، يوسف والى، وتضرر منه 93 ألف مزارع، رغم أن هذا القانون الذى وضعه والى قد أكد أن من سيتم سحب أرضه لصالح المالك سيتم تعويضه بأراضٍ جديدة بدلا منها، كما نص القانون على أن تكون الوحدة المحلية مسؤولة عن توفير السكن له، إلا أن هذا بالطبع لم ينفذ. أما الأزمة الثانية التى تواجه الفلاحين، فهى مشكلة مياه الرى، ولفت المأمون إلى أن هناك أزمة ضمير تتعلق بعملية رى الأراضى بالرشوة، بينما الأزمة الثالثة تتعلق بأزمة الأسمدة، فعلى الرغم من أن مصر دولة منتجة ومصدرة للأسمدة، فإن الفلاح لا يصل إليه السماد إلا من خلال السوق السوداء، ويتساءل المأمون: لماذا لا تخزن وزارة الزراعة 600 ألف طن شهريا من الأسمدة؟ وهو الاقتراح الذى اقترحه البعض على وزير الزراعة الأسبق، الدكتور أيمن فريد أبو حديد. ويلفت المأمون النظر إلى أزمة أخرى تهدد المزارع والمستهلك فى آن واحد، وهى أزمة البذور، إذ إن معظم البذور التى توزع على الفلاحين هى بذور مهجنة ومهندسة وراثيا وهى ضارة صحيا على المستهلك، بالإضافة إلى كونها غير قابلة للزراعة مرة أخرى، حيث إنها تنتج إنتاجية أقل من إنتاجية الزراعة الأولى، فيضطر الفلاح إلى شرائها من المنتج فى السنة الثانية، لأنها غير صالحة للتخزين فى السنة التالية، بسبب فسادها عند تخزينها، مما يجبر الفلاح على الشراء من المنتج سنويا رغمًا عنه، أما أزمة قروض الفلاحين لدى بنك التنمية والائتمان الزراعى، فهى مشكلة أصبحت بلا حل، مع العلم أن الفلاحين حصلوا على وعود بإلغائها، وهو ما لم يحدث فى عهد مبارك، أو عهد محمد مرسى، مشيرًا إلى أن عدد الفلاحين المهددين بالحبس، والذى صدرت ضدهم أحكام قضائية يبلغ 22 ألف فلاح، منوها بأن هناك قرية حمور بالدلنجات بمحافظة الحيرة، جميع رجال القرية لا ينامون فى بيوتهم خوفا من تنفيذ الأحكام، ومن رجال الشرطة الذين يأتون إلى بيوتهم ليلا لحبسهم، فى تنفيذ أحكام قضائية حصل عليها بنك التنمية والائتمان الزراعى عليها ضدهم، وهو ما يضطرهم إلى المبيت فى الحقول الزراعية خوفًا من تنفيذ الأحكام عليهم. تسويق المحصول أما الأزمة الأخيرة فهى أزمة التسويق، حيث إن الحكومة تشترى من الفلاح المنتجات المطلوبة فى السوق العالمية، وتترك له باقى إنتاجه، لافتا إلى أن هناك أطنانا بالآلاف من الفاصوليا الخضراء، تم إعدامها فى محافظة سوهاج، لأن الحكومة وعدتهم بشرائها ولم تنفذ وعدها، منوها بأن الفلاح ينتظر صدور 4 قوانين فى عيده، منها قانون الزراعة التعاقدية، وقانون تنظيم التأمين الصحى على الفلاحين، وقانون نقابات الفلاحين والمنتجين الزراعيين، وقانون إنشاء صندوق التكافل الاجتماعى. أزمة المبيدات وأمراض الريف الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الأراضى والمياه بجامعة القاهرة، يؤكد أن أزمة الأسمدة التى يعانى منها الفلاحون مستمرة منذ 10 سنوات، بعد أن ارتفع سعر شيكارة الأسمدة من 75 جنيها إلى 175 جنيها، فى السوق السوداء، مطالبا بتغيير لون الشيكارة حتى يتم التعرف عليها من قبل المراقبين على تجار السوق السوداء، الذين يقومون ببيعها بأسعار ضعف ثمنها الحقيقى، لتكون باللون الأخضر بالنسبة للنترات، واللون الأحمر بالنسبة لليوريا، مشيرًا إلى أن الأزمة الثانية التى تواجه الفلاحين فى عيدهم الثانى والستين، هى أزمة أسواق المبيدات التى ما زالت تدار فى أسواق عشوائية، حيث تباع المبيدات غير المصرح بها، مطالبا بعودة دور وزارة الزراعة للسيطرة على سوق استيراد المبيدات الذى تركته الوزارة للقطاع الخاص، بالإضافة إلى مشكلة استيراد التقاوى، حيث كانت الهيئة الزراعية التابعة لوزارة الزراعة تقوم ببيع التقاوى إلى الفلاحين، أما الآن فتركت الفلاح فريسة لبيع التقاوى بأسعار مضاعفة من جانب القطاع الخاص، وبعدما كانت تباع بألف جنيه للفدان، ارتفعت إلى 5 آلاف جنيه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما تأتى هذه التقاوى مصابة بالأمراض، مثل تقاوى البطاطس المصابة بالعفن البنى والعفن الأسود، مما جعل مصر تخسر عملاءها فى عدد من الأسواق الأوروبية، خصوصا روسيا، مشيرًا إلى أن مهنة الفلاح أصبحت غير مربحة، يضطر فيها إلى بيع أرضه ليبنى مساكن شعبية عليها، وذلك لحل أزمة السكن لأبنائه، بعد أن تخلت عنه الدولة وتركته فى الريف بلا خدمات، لافتا إلى أن الدولة تركت أصحاب المنتجعات الذين حصلوا على الأراضى الزراعية بسعر 200 جنيه للفدان، واتجهت إلى المزارعين الفقراء الذين يبنون بيوتا لأبنائهم لتهدمها لهم، وتركت مافيا الأراضى دون أن تحصل منهم على حق الدولة. الدكتور نور الدين يتابع بأن هناك أيضا أزمة الأمراض فى الريف، إذ تحولت الترع والمصارف إلى صرف صحى، مما أدى إلى زيادة أمراض الفشل الكلوى، والسرطان فى الريف، بسبب تلوث مياه النيل، لافتا إلى أن هناك 8 مليارات متر مكعب من الملوثات تلقى فى مياه النيل سنويا، منها 6 مليارات متر مكعب صرف صحى، و2 مليار متر مكعب صرف صناعى، كما أن هناك 120 مصنعا يلقى بمخلفاته فى نهر النيل، والفلاح وحده هو الذى يدفع ثمن هذا التلوث، مشيرًا إلى أن الحكومة تدعم المصدرين ب2.6 مليار جنيه سنويا، والأولى دعم الفلاحين بهذا المبلغ، من خلال إعفائهم من الديون الزراعية لمن هم ديونهم أقل من 10 آلاف جنيه، وتقدر مديونية هؤلاء بنحو 3 مليارات جنيه، ويقترح نور الدين دفع جزء من المبلغ الذى تم توفيره من دعم الطاقة، والذى يقدر ب33 مليار جنيه لتسديد ديون الفلاحين المهددين بالحبس. فضلا عن هذه المشكلات، يرصد نور الدين مشكلة ارتفاع نسبة الفقر فى الريف المصرى لتصل إلى 60% فى قرى الصعيد، وهناك تقدير آخر للبنك الدولى يقدر نسبة الفقر فى الصعيد ب78%، بالإضافة إلى 5% فقرًا مدقعًا، وعدم توافر البنية الأساسية، حيث المراكز الصحية بلا إمكانات، والمعاملة بها مهينة للغاية، كما أن الطرق غير مهيئة، ويضطر أطفال الريف إلى السير على الأقدام مسافات طويلة تصل إلى 8 كيلو للوصول إلى مدارسهم، مشيرًا إلى أن بعض مداس الفصل الواحد فى الريف بلا أسوار، مطالبا بعودة المشروع القديم الذى يعرف بمشروع تطوير الألف قرية. معاش الفلاح لا يقل عن الحد الأدنى للأجور محمد برغش، رئيس حزب مصر الخضراء «حزب الفلاحين» انتقد زيادة سعر التيار الكهربائى المستخدم فى رى الأراضى الصحراوية بنسبة 50%، مطالبا بمحاكمة من أصدر هذا القرار الذى يزيد العبء على الفلاحين وشباب الخريجين فى الأراضى الصحراوية الجديدة، لافتا إلى أن جميع أعمال الرى بالأراضى القديمة يتم من خلال الرى بالرفع، مما يجعل عملية الرى مكلفة جدا للفلاح، وطالب برغش بضرورة قيام الهيئة العامة لمشروعات التنمية الزراعية والإصلاح الزراعى بضرورة تسليم العقود الرسمية لتمليك الأراضى للفلاحين، كما انتقد برغش أيضا القرار الذى صدر فى أول يناير من بداية هذا العام 2014، بزيادة سعر الربط الضريبى عن الأطيان الزراعية 10 أضعاف المثل، حيث زاد الفدان من 42 جنيها إلى 420 جنيها، لافتا إلى أن الفلاحين يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وتابع: ما زال الأمل فى رئيس الجمهورية، مطالبا بقانون يحفظ للفلاح كرامته عند بلوغ سن ال60 عاما، وصرف معاش لا يقل عن الحد الأدنى للأجور، مشيرًا إلى أن الفلاح، ونتيجة للمخاطر التى يتعرض إليها فى أثناء الزراعة، يصاب بفيروس سى، والكبد الوبائى، والتليف الكبدى، ومن أبسط حقوقه أن يعوض عن كل هذه الآلام. الدكتور عبد السلام جمعة، نقيب الزراعيين، يقول ل«الدستور الأصلي»: «إن الفلاح لا يجد مؤسسات تسويقية تشترى منه محصوله، وأصبح مستغلا من الوسطاء، لافتا إلى أن نقابة الزراعيين تعد من أفقر النقابات، رغم أن بها 650 ألف عضو غير مدربين على التعامل مع متطلبات السوق، كما أنها النقابة الوحيدة التى ليس لها طابع مهنى مثل النقابات الأخرى مثل باقى النقابات، ومع ذلك لم نطالب إلا ب1% من ناتج الأسمدة والمبيدات والتقاوى، ليذهب هذا العائد إلى موارد النقابة، مشيرًا إلى أن جميع موارد النقابة لا تتعدى 60 مليون جنيه سنويا، وهو مبلغ لا يكفى لدفع معاشات النقابة التى تصل إلى 15 مليون جنيه شهريا. مزارعون بمعاش140 جنيهًا إبراهيم ربيع، رئيس اتحاد الفلاحين بالمنيا، يصف التعاونيات بأنها عقيمة ويضيف أنها لا تقوم بدورها فى خدمة الفلاح، بل تقوم بتسريب الأسمدة إلى السوق السوداء دون أن يستفيد منها الفلاح، ويضطر إلى شرائها بأسعار أعلى من سعرها الحقيقى، لافتا إلى أن إدارة المحاصيل السكرية بوزارة الزراعة تحصِّل جنيها ونصف الجنيه عن كل طن من القصب، وكل طن من البنجر، وأضاف أن الإصلاح الزراعى بوزارة الزراعة لم يسلم المنتفعين عقود الإصلاح الزراعى حتى الآن، منتقدًا فى الوقت نفسه القانون رقم 96 لسنة 1992، والذى أعاد الأراضى إلى الملاك، وتابع بأن الفلاح ليس له تأمين صحى، ويعالج على نفقته الخاصة، كما أن معاشه 140 جنيها فقط، ويحصل عليها بعد سن ال65 عاما، لافتا إلى أن أمراض الكبد تصيب 70% من أهل الريف، بسبب التلوث، وأشار إلى أن سعر التأمين على الماشية 160 جنيها للرأس الواحدة، مما يزيد الأعباء على الفلاحين. إبراهيم محمد، 47 عاما، مزارع من المنيا، يقول إن الإصلاح الزراعى يحصل من الفلاح على 10 جنيهات للقيراط، ويضطرون إلى دفع هذه الرسوم للحصول على الأسمدة، كما أنهم يشترون التقاوى من «الإصلاح الزراعى» إجباريا، ويحصلون على رسوم على طن القصب تقدر ب7 جنيهات، لافتا إلى أن الحكومة تشترى منهم القصب، وتعطيهم العائد فى السنة التالية. بهاء رمسيس إبراهيم، 31 عاما، مزارع، يقول نحصل على 6 شكائر فقط من الأسمدة، رغم أن الفدان من قصب السكر يحتاج إلى 13 شيكارة، مما يؤدى إلى أن الأرض تعطى عائدًا أقل من المعتاد، مشيرًا إلى أن الإصلاح الزراعى يجبرهم على شراء تقاوى الذرة الشامية الفاسدة ومنتهية الصلاحية. سراندو... القرية المناضلة نضال الفلاحين المصريين له تاريخ من الشد والجذب مع السلطة، ومن بينه نضال قرية سراندو، إحدى قرى محافظة البحيرة، والتى بدأت فيها المواجهة فى عام 2005، بعد أن قام أحد مدعى الملكية، بتلفيق عدد من القضايا للفلاحين بهدف إرهابهم والضغط عليهم للتنازل عن الأرض، لكن فلاحى القرية رفضوا الاستسلام، وقاموا بتكوين رابطة تدافع عن مصدر قوتهم الوحيد، ألا وهو الأرض التى نجحوا فى تسديد أقساطها عبر أكثر من عقد من الزمان، إلى أن احتدمت المواجهة بمداهمة قوات الشرطة للقرية فى الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، وقبضها على عدد من الفلاحين، وبعد ذلك بساعات شن أفراد من عائلة مدعى الملكية هجوما مسلحا على القرية، وبصحبتهم ما يزيد على 20 فردًا من البلطجية المأجورين والمحملين بالأسلحة النارية والمواد الحارقة، وذلك بغرض انتزاع ما يمكن من الأرض وتدمير محاصيل الأراضى التى يتعذر عليهم الاستيلاء عليها، ودارت معركة دامية استمات فيها الفلاحون فى الدفاع عن حقهم فى الأرض لتنتهى بعد نصف ساعة بانتصار الفلاحين وهروب عائلة البلطجية. وبعد ساعات حضر أحد الضباط ومعه قوات الشرطة وألقى القبض على 8 من الفلاحين و35 من نساء القرية، بغرض الضغط على رجال القرية لتسليم أنفسهم، وكان من بين النساء المقبوض عليهن الشهيدة نفيسة المراكبى التى تم ضربها وتعذيبها بمركز شرطة دمنهور لمدة تجاوزت 10 أيام، لتخرج فى 16 مارس مصابة بالشلل وتموت بعد يوم واحد فقط!