لم تحظ قضية من قضايا الرأى العام باهتمام ملايين المواطنين أكثر من قضية أموال التأمينات الاجتماعية، ولمَ لا وأجزاء كبيرة منها إما مهدرة وإما منهوبة. الصراع الذى تجاوز الأربعة عقود بين المواطنين أصحاب المصلحة والدولة بأجهزتها التنفيذية المتعاقبة، يحتدم يومًا بعد آخر، بينما حاول أنصار الفريق الأول خلال تلك الفترة الزمنية إثبات حقهم الدستورى والقانونى فى تلك الأموال، بينما حاول الفريق الثانى متمثلًا فى السلطة التنفيذية التنصل من واجبه تجاه المواطنين، ومن ثم التخلى عن مهمة إعادة الأموال إلى أصحابها الشرعيين. الطامة الكبرى أن الصراع بين أصحاب المعاشات والدولة، يتخذ مسارًا أكثر تعاسة، إن جاز التعبير، بينما يبدو هذا الإهمال أو القصور الذى يصل إلى حد الجرائم، هو السمة الغالبة فى تجاوزات السلطة السافرة ضد المواطنين المستحقين للمعاشات، فحين تضيع أو تتلف الملفات الخاصة بالآلاف من أصحاب المعاشات، فلا ريب أن مردود ذلك على المضارين سيكون كارثيا، بينما لن تجد الإدانة التى ستطارد المسؤولين عن تلك الفاجعة، ما يمكن أن يصف فداحتها. «الدستور الأصلي» يفتح فى المساحة التالية ملف الأرشيف التأمينى العامر بملايين الملفات الخاصة بأصحاب المعاشات، فى حين أنه يظل أحد الأسباب والنوافذ الرئيسية المسؤولة عن ضياع حقوق الملايين بتلاف أو ضياع أوراقهم الرسمية. مكاتب أرشيفية بالمئات
445 مكتبا أرشيفيا على مستوى جميع المديريات فى كل المحافظات، تمتلكها وزارة التضامن الاجتماعى، حيث يتم فيها حفظ المستندات الخاصة بالمواطنين من أصحاب المعاشات، بواقع 1500 مستند جديد شهريا.. هكذا أكد ل«الدستور الأصلي» الباحث فى مجال تطوير الأرشيف بوزارة التضامن الاجتماعى، أحمد عادل. عادل كشف ل«الدستور الأصلي»، حجم الإهمال الجسيم الذى تتعرض له تلك المستندات بالغة الأهمية، سوء بالتلف أو الفقدان، حيث تبلغ الأوراق التى يتم أرشفتها 500 مستند شهريا، أى أن حجم المستندات الفعلية التى يتم حفظها داخل كل مكتب سنويا 12 ألف ملف، ليصل على مستوى جميع المكاتب الأرشيفية إلى خمسة ملايين وثلاثمئة وأربعين ألف مستند سنويا. بينما كشف عادل، عن أن حجم الإهدار وتعطيل مصالح المواطنين والذى يصل إلى حد ضياع حقوقهم إلى الأبد، أمر بات كارثيا فى ظل استخدام الأرشيف الورقى، موضحا أن كل مكتب أرشيفى لديه هالك وضياع مستندات تبلغ 6000 مستند سنويا أى أنه على مستوى جميع مكاتب الجمهورية فيتم ضياع 2670000 مستند. حقوق 3 ملايين في مهب الريح
الباحث قال ل«الدستور الأصلي» إن الوضع الكارثى المتمثل فى ضياع حقوق قرابة 3 ملايين مواطن غالبيتهم من أصحاب المعاشات، يهدد حياة ما يقرب من 9 ملايين مواطن سنويا بحساب متوسط 3 أفراد داخل كل أسرة، بينما يتم إهدار 14 مليارًا وأربعمئة مليون جنيه سنويا، إذا كان متوسط المعاش الشهرى 400 جنيه شهريا، وأوضح أن سلسلة إهدار المال العام تبدو فى قطاع المعاشات مضاعفة، فعل سبيل المثال تتحمل الدولة رواتب اثنين من الموظفين فى كل مكتب أرشيفى، بمتوسط أجر 1000 للموظف الواحد، أى أن معدل الأجور شهريا على مستوى المكاتب الأرشيفية الخاصة بالوزارة هو 890000 شهريا، أى أن قيمة الرواتب فى الموازنة تصل إلى 10680000 جنيه سنويا، وبإضافة احتياجات كل أرشيف من خدمات أخرى مثل الأثاث وصيانة المبانى تصل إلى 14 مليون جنيه سنويا، فإن متوسط إجمالى ما يتم إنفاقه على أرشيف وزارة التضامن يصل إلى 24680000، وبإضافة ما يتم إهداره من أموال المواطنين إلى معدل ما يتم صرفه سنويا على الأرشيف يكون الناتج كارثيًا. طرق حفظ كارثية
كما يتحدث عن معايير سلامة حفظ المستندات وتدريب الموظفين المسؤولين عن تلك الحقوق والمصائر الخاصة بالمواطنين، فكشف التقرير أن الطريقة المستخدمة فى حفظ المستندات الورقية بداية من طريقة أرشفتها باستخدام الأكواد والأرقام وصولًا إلى طريقة الحفظ، بدائية جدًا، حيث توضع على أرفف خشبية مهملة وفوق أرضية أروقة المكاتب، مما يعرض المستندات لسرعة التلف. كما أن معايير السلامة والأمن الخاصة بالأماكن المكتظة بالأوراق غائبة تمامًا، فوفقا للقرارات واللوائح المنظمة لعمل الأرشيف فى وزارة التضامن الاجتماعى، يتم الاحتفاظ بالمستندات الأرشيفية لمدة 36 عامًا ثم يتم إعدامها والتخلص منها، أى أنه يجب أن يصل حجم الملفات داخل كل مكتب أرشيفى إلى 432000 ألف ملف حتى نستطيع التخلص من 12 ألف ملف فقط، الأمر الذى وصفه الباحث بالمستحيل فى ظل عشوائية الأرشفة فى مصر وغياب إجراءات الصيانة والوقاية الخاصة بسياسة الاحتفاظ بصحة الأوراق دون أن تتعرض للتلف، إلى جانب أن المساحة الفعلية لكل مكتب رغم اختلافها غير كافية لاستيعاب ذلك الحجم الضخم من الملفات، الأمر الذى يؤشر فى طياته إلى ضرورة ارتفاع معدل إتلاف المستندات وبالتبعية ارتفاع معدل الأموال المهدرة. عم رمضان يبحث عن ملفه التائه وكان ل«الدستور الأصلي» عدد من اللقاءات مع ضحايا هدر أوراق ومستندات أصحاب المعاشات بسبب مأساة الأرشفة. يقول عم محمد رمضان، سائق التاكسى، إنه كان يحلم بعدما وصل إلى سن المعاش فى الستين وانتهاء مدة خدمته كموظف أن يجلس بين أحفاده ويتفرغ لهم بعد مشوار من الجهد والعرق طوال أربعين عاما، إلا أنه عندما بدأ فى إنهاء إجراءات المعاش اكتشف أن ملفه التأمينى غير موجود، بينما طلب منه الموظف المختص إذا كان يريد أن يحصل على المعاش، أن يستخرج كل الأوراق والشهادات التى تؤكد بالأساس وظيفته السابقة حتى يستطيع الحصول على المعاش الخاص به. رمضان أوضح ل«الدستور الأصلي» أنه بدأ رحلة عذاب استمرت لمدة تجاوزت الأربعة أشهر بين أروقة المكاتب المختلفة لجمع المستندات التى تثبت حقه فى معاش شهرى، وبعد تلك الرحلة التى أجبرته على التنقل بين المحافظات والهيئات الحكومية المختلفة لجمع المستندات المطلوبة، حصلت على معاش شهرى 200 جنيه فقط. كعب داير من الأقصروأسيوط إلى القاهرة سيدة أربعينية يمكن الإشارة إليها بحروفها الأولى، ل.م، وهى أرملة منذ عام ولديها ثلاثة أطفال، قالت ل«الدستور الأصلي» إن زوجها الراحل والذى بلغ من العمر 55 عامًا حين توفى، كان يعمل محاسبا بإحدى المصالحة الحكومية، بينما هى «دايخة السبع دخات» بحثًا عن معاشه. وتقول (ل.م): «إن أصدقاء زوجها فى العمل قدموا الكثير من المساعدات كى تستطيع الحصول على المعاش، فبعدما استطاعت أن تحصل على خطاب من المصلحة موجه إلى الأرشيف التأمينى، لإثبات مدة عمل زوجها وإنهاء إجراءات حصولها على المعاش لتعيش هى وأولادها الثلاثة فى المراحل التعليمية المختلفة من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، حياة شبه كريمة، جاءتها الصدمة الكبرى من الموظف المسؤول عن الأرشيف، والذى قال لها إن الملف الخاص بزوجها غير موجود أو مفقود، وعليها لكى تنهى الإجراءات أن تقوم باستخراج كل المستندات الخاصة بزوجها». وعليه بدأت السيدة رحلة العذاب من الأقصر، محل ميلاد زوجها، ثم انتقلت إلى أسيوط لاستكمال الأوراق، بينما كان الفخ الأكبر بالنسبة لها، فى استكمال الأوراق بالقاهرة، وتحديدًا فى المصلحة التابع لها زوجها والذى كان يعمل فيها بالانتداب من وظيفته الأصلية. منذ أكثر من ستة أشهر لا تزال تحاول إثبات انتدابه، حتى يتم فترة ذلك الانتداب إلى مدة خدمته التى وصلت إلى ربع قرن، لكن لا أحد يريد منحها ما تريد.