الكتابة هى أعظم تجليات الوعى البشرى، وهى التى حفظت التاريخ الإنسانى من الضياع والاندثار، بواسطتها تم تسجيل المعارف والقوانين والخبرات، وأيضا الأديان، حتى يبقى الإنسان على صلة مستمرة بتراثه المكتوب، ينقحه، ويصححه، ويتعلم منه، بالإضافة أو الحذف، ثم يسلمها إلى من يخلفه، ضمن مهمة الإنسان الواعية بعمارة الأرض. لكن، ومع الأسف، تتحول الكتابة وأدواتها إلى شكل من أشكال إهدار المال العام، تربو عليها شبكة من المصالح المتصلة بالفساد، عبر الجهاز الإدارى للدولة المترهل بأعباء التوثيق والمستندات، الذى أصبح هو نفسه عائقا فى سبيل مواكبتها لمتطلبات العصر الحديث، والواقع المتجدد الذى لا يكف عن التطور السريع، منذ أن أتمت البشرية ألفيتها الثالثة. فى ضوء ما سبق، حاولت «التحرير» خوض مغامرة صحفية للنفاذ إلى عالم أروقة المنشآت والهيئات الحكومية، للتعرف على ما يتم مع المستندات والأوراق التى تخصص الدولة جزءا، ليس بالقليل منها، تحت مسمى الأدوات المكتبية، التى لا تعدو سوى شبكة معقدة من الانتفاع والفساد والإهمال، الذى يحاصر كل ورقة، أو مستند يدخل رواق الهيئة، أو المصلحة الحكومية، لم يحد منه الادعاء بالتجربة الإلكترونية. «التحرير» إذ تحاول اقتحام هذا العالم الورقى، حرصا منها على معرفة أسباب التأخر والركود البيروقراطى الذى أصاب مصر، ومنعها من إنجاز التحول من الوثيقة الورقية إلى المعلومة الإلكترونية، خصوصا أن الأمر لم يعد يتعلق بمجرد صدور قرار وزارى، أو تشريعى، أو حتى سيادى، بل هو أكثر تعقيدا بكثير من ذلك، يمتد إلى شبكة من المصالح تضم كبارا وصغارا فى الدولة، يرتبط وجودها بوجود تلك الإجراءات البيروقراطية التى عفا عليها الزمان. 1- الدولة تنفق 34 مليون جنيه على «المستلزمات المكتبية» بالاطلاع على الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2014/ 2015، اتضح أن حجم الإنفاق المخصص للخدمات الحكومية، ومتطلبات إدارة دولاب العمل الحكومى، بما فى ذلك الأوراق والمستلزمات المكتبية، وكذلك مخصصات المياه والكهرباء، بلغ فى مشروع الموازنة العامة للسنة المالية نحو 34 مليون جنيه «1.4% من الناتج المحلى، وفقا للموازنة العامة للسنة المالية 2014/2015»، مخصصة لشراء السلع والخدمات، مقابل ربط معدل يقدر بنحو 30.189 مليون جنيه «105% من الناتج المحلى وفقا للموازنة العامة للسنة المالية 2013/2014»، بزيادة قدرها 2.881 مليون جنيه، بنسبة زيادة 9.5%، وبزيادة تبلغ 5.103 مليون جنيه، عن النتائج المتوقعة لذات العام المالى البالغة 27.967 مليون جنيه، «1.4%من الناتج المحلى»، بنسبة زيادة قدرها 18.2%. تمثل الاعتمادات المخصصة لشراء السلع والخدمات بنسبة 4.2% من إجمالى مصروفات التشغيل فى مشروع الموازنة العامة للدولة البالغ مقدارها 789.431 مليون جنيه، كما تمثل نسبة 3.2% من إجمالى الإنفاق العام لمشروع الموازنة العامة للدولة المقدر بمبلغ 1.016.606 مليون جنيه. 2- دور الهيئة العامة للخدمات الحكومية «الشراء المركزى» تجدر الإشارة هنا إلى أن دور الهيئة العامة للخدمات الحكومية، التى أنشئت عام 1971، جاء بهدف إحداث تغيير فى نظم وقواعد العمل التى كان معمولا بها فى الجهات الحكومية آنذاك فى مجالات الشراء والبيع والتخزين، وذلك عن طريق إدخال النظم العلمية الحديثة فى الإدارة بصفة عامة، وفى إدارة المواد المستخدمة بصفة خاصة، ومن بينها مستلزمات الورق، حيث تعمل الهيئة على حصر ومتابعة مراكز المهمات الخدمية، التى تقرر عدم صلاحيتها، أو التى استنفدت عمرها الإنتاجى، أو الاقتصادى، وحصر وتنظيم ومتابعة عمليات بيع الأراضى وسائر العقارات المملوكة للدولة، هذا من جهة، والقيام بتخطيط وتنظيم ومتابعة عمليات الشراء والبيع، وإجراء الدراسات الفنية والمالية والتنظيمية المتعلقة بترشيد الإنفاق على الخدمات الحكومية، من جهة أخرى، وتطوير عملها بموجب قرار مجلس الوزراء لعام 2003 من جهة ثالثة، لتكون الهيئة مسؤولة بشكل مركزى عن تحديد احتياجات الهيئات، والمصالح الحكومية، من خدمات، مثل الورق، والدبابيس، والأقلام، وكل المستلزمات المكتبية، واختيار أنواع وأصناف وجودة تلك الخدمات، واقتصرت التجربة فى بدايتها على 5 وزارات، إلى أن تم توحيدها فى العام المالى 2006/ 2007 على كل الوزارات ودواوين المحافظات، لتبدأ الهيئة فى وضع المواصفات، ومعايير شراء ما تحتاج إليه الوزارات من خدمات مختلفة، سواء كانت ورقا أو مستلزمات الطباعة، والإنارة، وتزامن ذلك مع تشكيل لجان للفحص ومتابعة المخزون، وذلك لترشيد الاستهلاك، إلا أن دور هذه اللجان كان محدودا للغاية، بسبب غياب المعلومات، والقصور الشديد الذى تعانى منه تلك اللجان فى عمليات الحصر، مع عدم التزام الهيئات والمؤسسات والمصالح الحكومية، بإفادتها بشكل دورى باحتياطى المخزون بالمخازن المختلفة، الأمر الذى أدى فى نهايته بالهيئة العامة للخدمات الحكومية إلى أن تشارك فى زيادة معدلات الإنفاق، بدلا من الترشيد منها، لعدم قدرتها على جمع المعلومات، وإحصائها، وتفعيل دور لجان المتابعة والتفتيش. 3- الموظف الحكومى لا يحب الكمبيوتر! العداوة الشديدة بين موظف الحكومة ووسائل التكنولوجيا والاتصال الحديثة، يوضحها مساعد وزير التضامن الأسبق، ياسر الرفاعى، بقوله إن المشكلة لم تعد مقصورة على استهلاك الورق داخل الهيئات الحكومية، إنما تتعلق بسوء استخدام وسائل التكنولوجيا التى من شأنها أن توفر كل هذا المجهود المادى والمعنوى، ومنذ أن توليت مهمتى فى الوزارة حاولت دراسة أداء العاملين داخل الدولاب الحكومى، وكانت المفاجأة لى أن أغلب الموظفين ليس لديهم القدرة على استخدام وسائل الاتصال الحديثة مع شبكة «الإنترنت»، بخلاف عدم قدرتهم على استخدام الكمبيوتر، وعندما حاولنا تدريب العاملين، كان الأمر فى غاية الصعوبة. الرفاعى أشار إلى أن استهلاك الوزارة للورق كان يتراوح من 9 إلى 11 مليون جنيه فى العام الواحد، مؤكدا أن التقرير الواحد، كان يتم نسخه عشرات النسخ، بداية من المديرية التابعة للوزارة، حتى مكتب الوزير ذاته، ويستهلك ذلك مئات النسخ المصورة، بخلاف المطبوعات المتعلقة بالبريد اليومى. مع ذلك تبقى جهود لم يلتفت إليها فى معركة الترشيد هذه، أشار إلى بعض منها الرفاعى بقوله إن الوزير السابق، أحمد البرعى، حاول جاهدا فى أثناء توليه المسؤولية، إعادة هيكلة الوزارة بأكثر من طريقة، وذلك بعد قيامه بتخفيض النفقات، وهو القرار الذى أدى إلى توفير نحو 1.9 مليون جنيه شهريا، من بينها 250 ألف جنيه كانت مخصصة لدفع قيمة الاشتراكات فى الصحف اليومية. 14 مليارا و400 مليون جنيه تهدَر سنويًّا فى تلف الوثائق 4- غياب الرقابة.. «أبو بلاش كتر منه» طن يوميا من الورق تستهلكه وزارة القوى العاملة والهجرة، حسب تأكيد الباحث محرز نبيل، وتتراوح كميات الاستهلاك تلك ما بين كتابة المذكرات، والتقارير، والأبحاث، والطلبات اليومية، ويوضح محرز «دورة» الورقة التى تبدأ بنسخ المذكرة أو الطلب لعدد من النسخ، بعضها للأرشيف، وبعضها للاطلاع اليومى، ثم تذهب بعد ذلك إلى الوكلاء والمسؤولين برواق الوزارة لاتخاذ ما يلزم من قرارات على مستوى مديرات القوى العاملة. الكارثة ليست فى هذا فقط، إنما توضحها السطور القادمة التى يشير فيها الباحث إلى أن مبنى الوزارة يتكون من 9 طوابق، وكل منها يشمل نحو 13 مكتبا، يعملون على شبكة من تبادل الأوراق والبيانات اليومية، بين المنشورات، والتوجيهات إلى المرؤوسين، فى حالة عبثية من الإهمال فى التعامل مع المستلزمات المكتبية والورق، طبقا للمثل الشهير «أبو بلاش كتر منه»، باعتبار أن من يدفع تكلفة هذه الأوراق هو الدولة، بينما لكل وزارة أو هيئة حكومية حرية التصرف فى الشراء المركزى للمستلزمات المكتبية والورق المستخدم فى الطباعة والتصوير، وذلك عبر قطاع المشتريات، الذى يتولى بدوره عمل مناقصات لشراء الأصناف المطلوبة للقطاع، وهى متنوعة وتخضع لأحكام قانون 89 لسنة 1998 الصادر بشأن تنظيم المناقصات والمزايدات، ولائحته التنفيذية، على أن يكون التوريد خلال شهر من بداية إعلان الفائز بالمناقصة. 5- الورق المستخدم فى الهيئات الحكومية على حد قول الباحث بوزارة القوى العاملة نبيل محرز، تستخدم الهيئات الحكومية ورقا من نوع «A4»، مقاس 80 جراما للطباعة، وبالنسبة لورق التصوير تستخدم نفس النوع، بمقاس 21 × 7.29 سم، إضافة إلى أنه يجب أن يكون الورق خاليا من أى شوائب، ويكون صالحا للاستخدام على الوجهين «وش وظهر»، وأن تكون الرزمة 500 ورقة، وأن يكون مطابقا للمواصفات القياسية المصرية م. ق. م 2546/2002. أما بالنسبة إلى ورق الكتابة، فلا بد أن يكون «ورق فلوسكاب» مقاس 80 جراما، 23 × 33 سم، وورق «مسطر مفرد»، 60 جراما، وزن الفرخ فيه 60 جراما، و«مسطر مجوز فلوسكاب» 60 جراما، 250 للرزمة، والمفرد فلوسكاب، والأبيض 60 فلوسكاب، والأبيض تصوير A3 ،7.29 × 42 سم مطابقا للمواصفات 2546/2002، لافتا إلى أن متوسط استهلاك الوزارة والهيئات المديريات التابعة لها، يبدأ من 30 إلى 40 ألف رزمة كل ثلاثة أشهر، بينما كل هذه البيروقراطية العقيمة ليس لها هدف سوى إهدار المال العام. 6- الأرشيف.. حكاية الملايين المهدَرة وزارة التضامن الاجتماعى لها أيضا نصيب من هذا الإهدار، وحسب أحمد عادل، الباحث بالوزارة، فإن «التضامن» لديها 445 مكتبا أرشيفيا على مستوى جميع المديريات فى جميع المحافظات، يتم حفظ مستندات أرشيفية بداخلها بواقع 1500 مستند شهريا، ما يعكس حجم الإهمال الجسيم الذى تتعرض له تلك المستندات، سواء بالتلف، أو الفقدان، التى تقدر ب500 مستند شهريا، أى أن حجم المستندات الفعلية التى يتم حفظها داخل كل مكتب سنويا، تصل إلى 12 ألف ملف، ليبلغ على مستوى جميع المكاتب الأرشيفية 5 ملايين و340 ألف مستند. عادل قال ل«التحرير» إن هذا الوضع الكارثى المتمثل فى ضياع حقوق نحو 3 ملايين مواطن، غالبيتهم من أصحاب المعاشات، يهدد حياة 9 ملايين مواطن سنويا، بحساب متوسط 3 أفراد داخل كل أسرة، وعلى المستوى المالى، يتم إهدار 14 مليارا، و400 مليون جنيه سنويا، إذا كان متوسط المعاش الشهرى 400 جنيه شهريا، موضحا أن سلسلة إهدار المال العام ومصالح المواطنين لا يمكن فصلها على الإطلاق، فعلى سبيل المثال تتحمل الدولة رواتب اثنين من الموظفين فى كل مكتب أرشيفى، بمتوسط أجر 1000 جنيه للموظف الواحد، أى أن معدل الأجور شهريا على مستوى المكاتب الأرشيفية الخاصة بالوزارة هو 890 ألف جنيه شهريا، بقيمة تصل إلى 10 ملايين و860 ألف سنويا، وبإضافة احتياجات كل أرشيف من خدمات أخرى مثل الأثاث، وصيانة المبانى، تصل إلى 14 مليون جنيه سنويا، أى أن متوسط إجمالى ما يتم إنفاقه على أرشيف وزارة التضامن يصل إلى 24 مليونا و680 ألف سنويا، وبإضافة ما يتم إهداره من أموال المواطنين إلى معدل ما يتم صرفه سنويا على الأرشيف، يكون الناتج هو ضياع 14 مليارا و414 مليون جنيه. وأوضح أن الدراسة التى أعدت فى هذا المجال أكدت أن تكلفة التحول من الأرشيف الورقى إلى الإلكترونى من خلال ما تقدمت به الشركات الكبرى فى هذا المجال، بلغت 50 مليون جنيه فقط تدفع مرة واحدة، وأشار عادل إلى أن الفرق فى التكلفة المادية كبير جدا، وأن حجم التوفير بالتالى يصل إلى مليارات الجنيهات، إلى جانب أن حجم ما يتم إتلافه أو ضياعه من مستندات، سيكون تقريبا معدوما، وأوضح الباحث ل«التحرير» أنه وفقا للقرارات واللوائح المنظمة لعمل الأرشيف فى وزارة التضامن الاجتماعى، يتم الاحتفاظ بالمستندات الأرشيفية لمدة 36 عاما، ثم يتم إعدامها والتخلص منها بعد مرور المدة الزمنية، أى أنه يجب أن يصل حجم الملفات داخل كل مكتب أرشيفى إلى 432 ألف ملف، حتى يمكن التخلص من 12 ألف ملف فقط، الأمر الذى وصفه الباحث بالمستحيل، دون أن تتعرض الأوراق للتلف. 7- شبكة الفساد تتهرب من المعلومات يتضح مما سبق أن بيزنس الأوراق الحكومية يرتبط بشبكة واسعة من المصالح، ولهذا فإن بعض المسؤولين عن البيانات والإحصاءات، الذين وجه إليهم اتهام برغبتهم فى بقاء الوضع على ما هو عليه، رفضوا بشكل مباشر تقديم الإحصاءات والبيانات، بل وصل الأمر بهم إلى درجة التضليل فى بعض الأمور، من بينها على سبيل المثال نتائج التقارير الخاصة بالعاملين بوزارة التضامن الاجتماعى، الذين تم تدريبهم على استخدام شبكة التواصل الاجتماعى، لم تكن مطابقة للنتائج المتوقعة التى تم إعدادها قبل تدريبهم، وبعد اختبار عدد منهم بشكل عملى على ما تم تدريبه عليه، كانت النتائج مخيبة للآمال، وصلت إلى درجة الجهالة ببعض الأمور، على عكس ما تم رفعه من تقارير تؤكد بلوغهم مستوى متميزا، وأرجع بعض الباحثين ذلك إلى أن هناك بعض القيادات لديهم مصالح شخصية يتعلق جزء منها بالفساد داخل الوزارة، وجزء آخر بمكانتهم الوظيفية التى يمكن أن يخسروها كنتيجة هذا التطوير، خصوصا مع وجود دراسات تناولت جانبا من التحديات التى تواجه عملية التطوير فى مصر المتعلقة فقط بأزمة العمل الأرشيفى داخل وزارة التضامن الاجتماعى، وليس كل أزمات المؤسسات الحكومية المصرية أو حتى أزمات الوزارة نفسها، فالأرشيف هو جزء صغير من أزمات داخل الوزارة، يتعلق باستخدام الورق داخل دولاب العمل، وأثبتت الدراسات وجود مؤشرات على إهدار معدلات الوقت، وآثاره على مستوى العمل، ونتائجه المادية المباشرة، وغير المباشرة، كنتيجة لغياب البيانات والأرقام والإحصاءات التى تجعل وضع النواة الأولى للإصلاح شبه مستحيلة. 8- الدولة تدفع الثمن مرتين عمرو خضر، رئيس شعبة الورق بالغرفة التجارية، قال إن حجم استهلاك مصر للورق على مستوى الطباعة والاستخدام يبلغ 450 ألف طن سنويا، وتبلغ قيمة الإنتاج المحلى منها 200 ألف طن سنويا، عبر 3 مصانع رئيسية، أبرزها مصنع «قنا» بقوس، الذى ينتج نحو 120 ألف طن سنويا بالتعاون مع عدد من الجهات مثل البنك الأهلى المصرى، والهيئة القومية للتأمين، وشركة السكر للصناعات التكاملية، التى تتحمل العبء الأكبر لتعويض لب الخشب، الذى يتم استيراده من الخارج بمصاصة قصب السكر، ورغم ذلك فإن تكلفة الإنتاج المحلى أعلى من المستورد، وأوضح خضر ل«التحرير» أن السبب فى ذلك هو ارتفاع نسبة الضرائب المفروضة على لب الخشب، الذى يتم استيراده من الولاياتالمتحدةالأمريكية وروسيا، حيث تم فرض ضرائب من قبل الدولتين تبلغ 10% من قيمة تكلفة المادة الخام، أما الورق المصنع فيتم استيراده من دول أوروبا، دون فرض أى رسوم جمركية، وأضاف خضر أن مصر تستهلك أيضا 120 ألف طن من الورق المستخدم لطباعة الجرائد، ويتم استيراده بنسبة 100%، تتحمل الدولة استيراد 100 ألف طن منه، بينما يتحمل القطاع الخاص الجزء الباقى. وشدد خضر على أنه من خلال المناقشات بين الحكومات المتعاقبة، قبل الثورة وبعدها، حول ضرورة ترشيد استهلاك الورق، وبحث آليات تلك الطرق، تم طرح عديد من الأفكار التى تتعلق بخفض معدلات استهلاك الجهاز الإدارى للدولة، والمتمثل فى الوزارات والهيئات والوحدات الحكومية، للورق، خصوصا أن أعلى معدل للاستهلاك من الورق تحتله وزارة التربية والتعليم، حيث يتضمن مشروع موازنة 2014/2015 مبلغ مليار و230 مليون جنيه لنفقات الطبع، مقابل مليار و222 مليون جنيه، بموازنة السنة المالية 2013/2014، أى بزيادة قدرها 8 ملايين جنيه، بنسبة 0.6%، وبزيادة تبلغ نحو 32 مليون جنيه على النتائج المتوقعة لذات العام المالى البالغة 1.198 مليون جنيه، بنسبة زيادة قدرها 0.7%. جدير بالذكر أن نفقات الطبع تتمثل أغلبها فى طبع الكتب المدرسية ل18 مليون طالب بكل المراحل الدراسية، حيث تتم طباعة نحو 280 مليون كتاب مدرسى فى العام، الأمر الذى يجعل من وزارة التربية والتعليم المستهلك الأكبر للورق فى مصر، وكان المقترح الذى تم تقديمه هو تحويل الكتب المدرسية إلى الكتاب الإلكترونى وتوزيع «التابلت» على التلاميذ فى المدارس فى جميع المراحل التعليمية، ووضع خطة زمنية لتغطية احتياجات جميع المدارس، وإعلان الكلفة الإجمالية لهذا التحول الآن، إلا أن هذا المقترح لم يقدم أى حلول لتحديات مشكلة الورق، كما تضمن المقترح إعادة تدريب موظفى الجهاز الإدارى للدولة لتحويلهم إلى الاستخدام الإلكترونى لا الورقى، وتم أيضا تعطيل هذا المقترح لعدم قدرة الدولة على تدريب كل العاملين، إضافة إلى أن المقترح لم يعالج كيف يمكن للوزارة التى تم تحويلها إلكترونيا، التعاون مع الوزارات الورقية، وما الإجراءات والآليات المتبعة، الأمر الذى جعل المقترح دون قيمة حقيقية للتنفيذ. خضر تابع بقوله إنه لا يتوقع أن تقوم مصر خلال المرحلة القادمة بإنجاز هذا التحول، خصوصا فى ظل العروض المقدمة من مستثمرين عرب وأجانب لفتح مصانع لإنتاج الورق فى مصر، الأمر الذى يؤكد عدم وجود نية للحكومة لإجراء هذا التحول، وإن كانت راغبة فى ذلك، فعليها أن تقدم هذا بشكل شفاف لجميع المستثمرين، وتؤكد لهم أنه خلال فترة زمنية محددة لن يكون لمصر احتياج إلى تصنيع الورق، لأن الأزمة التى تمر بها مصر منذ عقود هى تضارب التصريحات والقرارات التى تجعل المستثمرين لديهم ريبة فى استثمار أموالهم بمصر، تخوفا من عدم استقرار التوجهات والقرارات، وشدد خضر على أنه من خلال قراءة الواقع المصرى، وما يتم اتخاذه من إجراءات على الأرض، لا يحمل أبدا أى رغبة حقيقية يمكن الاعتماد عليها، فى أن الحكومة المصرية ستقوم بتحولات جذرية فى المسار التكنولوجى، على الأقل خلال العشرين سنة القادمة. 9- وثائق سرية.. فى مطاعم الفول والطعمية ها بهدف الحفاظ عليها من السرقة والتلف والاعتماد على القوانين السارية فى البلد لتحديد سقف زمنى لسريتها، التى يستطيع بعدها المواطن والمؤسسات الأخرى تداولها والاطلاع عليها كى تكون وثائق عادية بسبب تأثيرها المادى والمعنوى والأمنى، الذى يمس أمن المواطن والوطن، لما يعد لها من مردودات سلبية تعرض الشخص للابتزاز وضياع الهوية. فى ذات السياق، أوضح مصدر يعمل بالأرشيف، فى إحدى المؤسسات الحكومية، رفض ذكر اسمه، أن الأمر لا يقتصر فقط على الإهمال، لكن هناك أمورا فى غاية الخطورة، منها على سبيل المثال أن البعض من الموظفين والعاملين يستغلون مواقعهم الوظيفية فى تسهيل عمليات فساد عبر إخفاء أو طمس بعض الملفات الخاصة بالمواطنين، التى تحمل معلومات يمكن أن تفيد وتضر بعض الأشخاص إذا تم إخفاؤها أو التخلص منها. المصدر أشار إلى أنه نتيجة ضعف الأجور فى المصالح والهيئات الحكومية، يتم التخلص من هذه الملفات والمستندات عن طريق بيعها لتجار الورق والباعة الجائلين، ثم بيعها مرة أخرى لأصحاب المطاعم، بدلا من فرمها كما يحدث مع الأوراق الخاصة بالحسابات السرية والمعاملات المالية فى البنوك، وأيضا الجهات السرية، والعسكرية. وقد تجد بعضا منها على عربات البطاطا أو فى محلات الفول والطعمية. 10-عالم النفايات الورقية «التحرير» خاضت مغامرة فى عالم النفايات لتكشف عن الدورة التى تمر بها وثائق ومستندات المؤسسات الحكومية، بداية من مكتب الوزير، ووكلاء الوزراء، لتكتشف مقرا يعمل به الآلاف من أبناء الفقراء والمهمشين، فى أعمال تراوحت ما بين الفرز والتصنيف والعد، بينما كان هناك من يعمل على ميزان «بسكول»، «ميزان يستخدم لوزن الشاحنات» الذى يتصل بغرفة حاسب آلى يقوم بحساب وطباعة الوزن، وكانت البداية فى عزبة النخل، ومنطقة الخصوص، حيث صخب وضجيج، ومبان عشوائية، وطرق غير ممهدة، الكثير من الغبار يحيط بالتوك توك، وعندما ذهبنا إلى مقر الفرز، رأينا العجب. استقبلنا فى البداية رجل ستينى، قوى البنية، يرتدى جلبابا رمادى اللون، اسمه عم أحمد، ولم يستغرق الترحيب بنا وقتا طويلا، حتى سألنا عن أسباب الزيارة، وسرعان ما بدأنا الحديث عن طبيعة الشغل، وبدأنا فى وصف وشرح الكمية المطلوب التخلص منها، ثم تحدثنا إليه فى أمر العمولة، ونصيبنا من الصفقة التى أود أن أوكلها له، بدل المتعهد الحالى المسؤول عن رفع المخلفات المختلفة، لتكشف «التحرير» من خلال هذا الحوار حقيقة التعامل مع نفايات الوزارة المتعلقة بالأدوات المكتبية والأثاث والأجهزة المستخدمة بمقر عام ديوان الوزارة. 11-كيف تخرج الأوراق من الوزارات إلى «الزرائب»؟ ذهبنا بعد ذلك إلى «زرايب» منطقة مصر القديمة، «بطن البقرة»، للبحث عن أم سيد، وسؤالها كيف يتم التعامل مع مخلفات الوزارة، ونصيب الموظف المسؤول عن التخلص منها، وكيف يتم التخلص منها؟ واستطعنا إقناعها بأننا موظفون بإحدى الوزارات. وقدمنا لها عرضا جديدا يفتح الطريق أمامها للحصول على ما يتم الاستغناء عنه من مخازن الوزارة بشكل سنوى، فتحدثت معنا أم سيد، أحد كبار التجار، وهى المتعهدة بجمع مخلفات وزارة القوى العاملة، والجهاز المركزى للإحصاء والمالية، وأكدت أن حصيلة المخلفات أسبوعيا تصل ما بين 10 إلى 15 طنا من مخلفات الورق المتنوعة، التى صنفتها «ورق حشو»، وهو الأقل جودة، التى أطلقت عليه «ورق فاتورة»، ثم الدشت، والمنقسم إلى نوعين، الدشت العادى والآخر النظيف، والأخير ذو جودة مرتفعة، الذى يتجاوز سعر الطن فيه مبلغ 1200 جنيه، بينما يتراوح سعر الطن من ورق الفاتورة ما بين 650 و800 جنيه، ويتراوح سعر الكارتون ليصل ما بين 800 و1000 جنيه للطن الواحد. وكشفت أم سيد ل«التحرير» عن أن الحصول على مخلفات الوزارة لا يأتى من خلال مناقصات أو عروض يتقدم بها المتعهد، لكنها تأتى من خلال العلاقات المباشرة. وأن الشرط الوحيد لدى أى مصلحة حكومية هو الالتزام بالحضور اليومى فى الصباح، وجمع المخلفات دون تأخير أو تعطيل، مهما كانت الظروف، هذا الوضع الذى وصفته أم السيد بأنه يجعلها دائما مستعدة بأسطول من سيارات النقل والعمال لتفادى أى معوق يحدث، مشيرة إلى أن هذا يجعلها قادرة على الاستمرار فى ممارسة عملها. أما فى ما يخص الدخل فأكدت أم السيد أن متوسط ما يتم جمعه من مخلفات ورقية خلال شهر يبلغ 55 طنا، بقيمة مالية قدرها 55 ألف جنيه فى المتوسط، بينما تبلغ قيمة ما يتم جمعه من مخلفات سنويا 660 طنا، بقيمة مالية قدرها 660 و60 ألف جنيه، أى أن ربح أم السيد بعد مصروفاتها، يبلغ 462 ألف جنيه، وعند مواجهتها بمبلغ ربحها الصافى، نفت أن يكون وصل إلى هذا الحد فى أى عام، لتكشف عن مفاجأة تؤكد أن الموظف المسؤول بالوزارة يحصل على 25% من الربح، وأرجعت السبب فى ذلك إلى أنه هو من يقوم بحماية وجودها دون منافس للحصول على مخلفات الوزارة، إلى جانب حماية طريق سياراتها من المخالفات المرورية، مؤكدة أن كل أمين شرطة له شهرية يحصل عليها منها بشكل مباشر، تبلغ 2000 جنيه شهريا، مخصصة ل5 أمناء، بقيمة 10 آلاف جنيه شهريا. 12-«سرِّى جدا» على قائمة الفرز أم السيد أكدت أنها لن تستطيع تحديد عمولتنا، باعتبارنا موظفين فى الوزارة، إلا بعد رؤية «الشغل» وتقييمه، مؤكدة أنها لا تعمل سوى فى الورق، أما ما يخرج من المخازن مثل الأجهزة، والأثاث فليس من عملها، إنما تستطيع أن تحضر تجارا آخرين يستطيعون شراء المخلفات الأخرى، والعمولة بالنسبة لنا كموظفين محفوظة ومعروفة، 25% مثل السوق. أم السيد همست فى أذن «التحرير» وهى تلتفت نحوها، بأن تلك المهنة حساسة جدا، وتحتاج إلى من يتميز بالأمانة الشديدة، لأنها تتعامل مع أماكن مهمة فى البلد، ولا بد أن تكون أمينة وكاتمة أسرار، لأنه فى بعض الأحيان تقع بين أيديها أوراق مهمة، ومنها سرية، ما يستلزم أن تكون على قدر المسؤولية، وحسب أم السيد «الأسرار ما تخرجش لحد».