لاحظ المواطن صفر مؤخرًا أنه لا يحب السَكن فى أماكن منعزلة بينما يحب أن يكون منعزلاً. فحب أن تعيش فى أماكن تستطيع فيها الاستماع إلى أصوات الموتوسيكلات والأتوبيسات والسيارات والخناقات ليس له علاقه بحب العيش منعزلاً بداخل مكانك الخاص، حجرتك أو شقتك، العيش منعزلاً فرصة للتعرف على نفسك أكثر، وبالتالى تحسين علاقاتك بالناس، وفى هذا الصدد ليست هناك أدنى شبهة تناقض بين كون الانعزال يعتمد فى الأساس على ابتعادك عن الناس وبين حبك للعيش فى أماكن أو شقق تطل على شوارع تضج بالحياة طوال الوقت، وينبغى أن تكون تلك الأماكن على شوارع مفتوحة من تلك الشوارع التى تزيد فيها نسبة الغرباء عن نسبة أهل المنطقة أنفسهم، فتلك الشوارع تحتفظ لك بالقدر اللازم من الخصوصية كما تحتفظ لك بالابتعاد عن تلك المناطق التى يبدو فيها الغريب غريب بسهولة، تلك الأماكن التى تضج بالحياة المفتوحة والتى يعتمد قوامها الرئيسى على الغرباء أكثر مما يعتمد على أهل المنطقة الواحدة لتسمح لك بالشعور بأنك بينما أنت فى «المكان» فإنك أيضًا – وفى الوقت نفسه– فى «اللا مكان»! ولكن أو ليس هذا نوعًا من أنواع التناقض؟! -هكذا سأل المواطن صفر نفسه- أن تميل للعزلة بينما أنت فى الوقت نفسه تكره الأماكن المنعزلة؟! وهنا يأتى دور ما نسميه بالأوبشن. والأوبشن هو امتلاك القدرة على فعل شىء ما فى حال أردت فعله، وفى حال امتلاكك للأوبشن لا يصبح الفعل مهمًا بقدر أهمية امتلاك الأوبشن فى حد ذاته، فامتلاكك للتليفزيون أوبشن، أوبشن تستطيع تفعيله بضغطة على الريموت كنترول وقتما شئت، وحتى لو لم تقم بتشغيله سوى نادرًا أو لمشاهدة شىء محدد تود مشاهدته، إلا أن مجرد معرفتك بأنك بضغطة لا تستلزم سوى ثوانٍ معدودات تستطيع تفعيل الأوبشن وتشغيله تمنحك راحة نفسية من نوع خاص، راحة نفسية نابعة من امتلاكك للأوبشن. وامتلاكك للكومبيوتر أوبشن، أوبشن يسمح لك بمتابعة آخر التطورات على الكوكب فى جميع المجالات كما أنه يسمح لك بالتعرف على آخر أخبار الأصدقاء، أوبشن تملك تعطيله أو تفعيله. الموبايل أيضًا أوبشن، أوبشن يمنحك نوعًا خاصًا وغامضًا من الطمأنينة إلى أنك قد أصبحت شأنك فى ذلك شأن أى إنسان آلى محترم تمتلك رقمًا كوديًا سحريًا مكونًا من 11 رقم، تستطيع صاحبة الشقة التى تستأجرها أن تطلبه لتطالبك بالإيجار كما يستطيع أيضًا «سكورسيزى» أن يطلبه ليطلب منك شراء سيناريو الفيلم الجديد الذى كتبته، وحتى لو لم يطلبك سكورسيزى فإن امتلاكك لهذا الرقم الكودى السحرى الغريب سوف يدع المجال مفتوحًا أمام جميع الاحتمالات مع احتفاظك بكامل حقك فى الوقت نفسه فى إلغاء ذلك الأوبشن وفى تعطيل تلك الاحتمالات عن طريق ضغطة بسيطة تغلق بها الموبايل لتختفى بعدها ببساطة من على وجه الكوكب، وكأنك لم تكن أصلاً. إذن، المتعة فى امتلاك الأوبشن ليست فى تفعيله بقدر ما هى فى امتلاكه وفى امتلاك القدرة على تفعيله من عدمه. لهذا، الميل إلى العيش منعزلاً على مستوى تواجدك الفردى فى مكانك الخاص لا يتناقض على الإطلاق مع الميل إلى العيش فى المناطق الحية الصاخبة غير المنعزلة، فلو كنت تعيش منعزلاً فى منطقة غير منعزلة، إذن أنت منعزل غصبن عنك مش بإرادتك. وعدم امتلاكك للكومبيوتر معناها أنك منعزل عن الكوكب وغير قادر على التواصل الإلكترونى معه غصبن عنك مش بإرادتك. وعدم امتلاكك للموبايل لن يجعل أحدًا قادرًا على الوصول إليك، ليس لأن هذا ما تريده ولكن لأن هذا ما تقتضيه ظروف عدم امتلاكك للموبايل. الأوبشن معناه امتلاكك زمام الأمور، أو بمعنى أدق، تصور إمتلاكك زمام الأمور، ومجرد تصورك لأى شىء فى خيالك هو الآخر فى حد ذاته أوبشن، إلا أنه أوبشن ربانى، أوبشن ممنوح للجميع مجانًا، أوبشن يجعل لتلك الحياه الغريبة غير المفهومة تصورًا آخر فى خيالنا غير ما هى عليه بالفعل، وأوبشن الخيال هذا ربما كان هو الشىء الوحيد على ذلك الكوكب التعس الذى يمنع سكان الكوكب من الانتحار الجماعى الكامل وإنهاء تلك المأساة المستمرة التى لا يعلم أحد كيف بدأت ولا كيف سوف تنتهى!