لم تكن المرة الأولى التى تتوحد فيها الأسود والنمور عليه لالتهامه، قبل 30 عاما كادت أن تفتك به وأنقذته أمه المروضة العالمية الراحلة محاسن الحلو. كانت حادثة مروعة اهتزت لها مصر، حيث إن السيدة الرائعة لم تجد سوى وسيلة واحدة لإنقاذه وهى أن تلقى بجسدها عليه، والغريب أن الحيوانات المفترسة لم تقترب منها، وأخرجت ابنها الشاب مدحت كوتة، الذى لم يتجاوز عمره وقتها العشرين عاما سالما إلا من بعض جراح بسيطة. الصحافة أفردت مساحات تشيد بالأم البطلة، ولكنى تساءلت كيف استطاعت السيطرة على الأسود فى تلك اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت؟ فلا أتصور أنها فقط ارتمت فوق ابنها فحنت مشاعرهم وتراجعت أنيابهم ومخالبهم عن التهام جسدها وجسده، المؤكد أنها رمقتهم بنظرة، هى تدرك أنها ستثير بداخلهم الرعب، فعادوا مرة أخرى أسودا ونمورا من ورق تطيع سيدتها.
عندما ذهبت إلى مدينة الإسكندرية لإجراء حوار معها وأيضا مع الأستاذ السيد بدير الذى كان قد حصل وقتها على جائزة الدولة التقديرية -وكالعادة تمنح الجوائز للكبار قبل رحيلهم بأشهر قليلة- كنت سعيدا بهذا التباين، فسيد بدير هو أهم كاتب حوار فى تاريخنا السينمائى والمسرحى والإذاعى، والكاتب بشكل أول بآخر هو مروض أيضا للكلمات، وما تبقى مع الأيام فى الحقيقة هو أننى لم أنسَ ذهابى إلى منزل محاسن الحلو، وأنا لا أخاف فقط الحيوانات المفترسة ولكن الأليفة مثل القطط، أعمل لهم ألف حساب.
انتظرت فى الصالون حضور محاسن الحلو، ووجدت ابنتها تضع طبقا من اللبن أمام كرسى مقابل لى فى الحجرة وتغادرها، وفجأة شاهدت شبلا صغيرا يخرج من تحت الكنبة، ولم يعرنى أى اهتمام، ولكن أنا الذى منحته كل حواسى الخمس، ولا أتصورها كانت صالحة للاستخدام، حيث إننى لم أستطع وقتها حتى الصراخ ورمقته وهو يتوجه بوثبات سريعة ورشيقة إلى الطبق يلحس اللبن، وفى لحظات امتلأت الغرفة بكل الأشبال، ولا أدرى إذا كانت نمورا أم أسودا، وهى تأخذ نصيبها الصباحى من تلك الوجبة الشهية، بينما صاحبكم يبحث عن الشباك ليلقى بنفسه «قضاء أرحم من قضاء»، ثم حضرت محاسن الحلو وهى فى حالة استغراب من هذا الصحفى الذى يخشى من مجرد حيوانات رضيعة.
علمت من محاسن الحلو أنهم جميعا يبدؤون حياتهم فى أحضانها، وبعد مرور عامين وبعد أن يشتد عودهم وتقوى أنيابهم ومخالبهم تذهب بهم إلى السيرك لتواصل السيطرة عليهم من خلال تعليمهم فنون اللعب بالترهيب والترغيب، الكرباج وسيلة عقاب للمخطئ، بينما الأكل هو مكافأة للمجيد. والحيوانات مثل البشر تتباين فى مستوى الذكاء والاستجابة للتعليمات. علمت من محاسن الحلو أنها كانت تحمل قلبا ينبض بالمشاعر الرقيقة، حيث إن عائلة الحلو تمنع أن يدخل إلى الحلبة إلا فقط من ينتمى للعائلة، لتحتكر الأسرة التى بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر مهنة الترويض، ولهذا فإن من أراد أن يورث أبناءه المهنة من النساء عليه أن يتزوج «حلو» آخر، ولكن قلبها كان قد خفق للاعب أكروبات ينتمى إلى عائلة كوتة، ولم تكتف بهذا القدر، بل ورثت جينات الترويض لابنها مدحت، وكانت حريصة على أن يكمل الطريق. وكان أول درس هو أن عليه أن ينزل للحلبة وبسرعة قبل أن يفقد جرأته فى المواجهة حتى لا تنساه الحيوانات المفترسة، وعليه أن يعيد تهذيبها وترويضها، ولهذا أؤكد لكم أن مدحت سيعود مجددا وفى أسرع وقت إلى الحلبة، وإلا فإنه لن يستطيع العودة نهائيا لو طال الزمن.
غدر الأسود يتكرر. أتذكر أن محمد الحلو لقى حتفه أيضا بخيانة، ويومها امتنع الأسد عن الأكل ومات حسرة لإحساسه المفرط بالندم. صلاح جاهين رسم كاريكاتيرًا أغضب عائلة الحلو، عندما رأينا وكيل نيابة يحقق مع الأسد القاتل فرد عليه «واللهى لم أأكله أنا حتى عندى سكر، والدكتور مانعنى من أكل الحلو».
الأسود المحاطة بأقفاص السيرك تذكرنى بالشعوب المقهورة داخل أوطانها، يخبو أحيانًا نداء الحرية ولكنه لا يموت، وعندما تحين الفرصة ينقض على مروضه، هذا ما رأيناه مثلا فى رومانيا، عندما بدأت بذرة التمرد على الديكتاتور شاويشيسكو، فطاردوه وهو فى عز قوته من البرلمان إلى الشارع، وهو ما تكرر فى ثورات الربيع العربى مع كل الطغاة، فاحذروا غضب الأسود!!