«1» قبل نحو ربع قرن، كتب الروائي الكبير يوسف القعيد، وكان حينها مصنفا ضمن الأدباء الشبان«!» رواية سماها (شكاوي المصري الفصيح). وكانت فيما أذكر من ثلاثة أجزاء، وتروي في فانتازيا سياسية حال أسرة مصرية فقيرة سكنت المقابر ثم طردت منها. وتمضي الرواية في وصف العمل السري والتخطيط المحكم الذي قام به رب الأسرة للوصول بأسرته إلي ميدان التحرير ومن ثم يبيع أولاده في مزاد علني! وتمر الأيام وتتحول الفانتازيا إلي واقع مصري يومي عجيب. فها هو رب أسرة مصري، يجلب أطفاله الثلاثة إلي رصيف مجلس الشعب، ويعتصم علي مدي فاق الأسابيع الثلاثة، احتجاجا علي عدم قبول ابنته الصغري في المدرسة استثناء لشرط السن!،ثم يستخدم الأب المحتج خيالا فاق خيال القعيد، فهو مرة يحاول إلقاء أطفاله أمام سيارة رئيس مجلس الشعب الدكتور سرور، ومرة يعلق رقبته ورقاب فلذات أكباده في حبال مشانق غليظة ويغطي رؤوسهم بطراطير حمراء وينتظر عشماوي الحكومة لينفذ حكم مديرية التربية والتعليم. ولا أدري كيف لم تنبهنا هذه الوقفة الاحتجاجية العبثية إلي غياب كل مفهوم إنساني لحقوق الطفل في مصر؟ فهؤلاء الأطفال في سن لا تسمح لهم بافتراش الرصيف وفرجة الناس عليهم وسخونة الشمس وتمثيلية المشانق السخيفة. كيف تسمح السيدة وزيرة الأسرة والسكان بهذه المهانة؟ وكيف لا يرغم الأمن هذا الرجل الذي ترك غضبه وغيظه يعم حتي علي أطفاله، كيف لا يرغمه علي إعادة أبنائه إلي المنزل والمدرسة، ثم يعود هو ليحتج علي مزاجه؟ في نحو سبعين بلداً زرتها في حياتي لم أر مثل هذا المشهد مسموحا باستمراره يوما بعد يوم. ولم أر أطفالا دون العاشرة يبيعون المناديل في شوارع المدن في عز البرد والحر. ولم أر عائلات مبتسمة مرحرحة في غيابات دخان الشيشة وحولها أطفال ورضع، بينما السرير ينتظر وحيدا والوسادة خالية وميكروفونات الفجر تخشخش معلنة أن الصلاة خير من النوم! «2» ثم ها هم عمال شركة النوبارية يتفننون في لفت الأنظار فيحتجون بالملابس الداخلية! حسنا، ماذا إذا لم تجدِ الملابس الداخلية؟ هل نصل إلي الاحتجاج العاري؟ أحد البرامج - التي باتت تعتاش علي الاحتجاجات والاعتصامات - استضاف عددا من هؤلاء، فإذا بهم يشرعون في خلع ملابسهم علي الهواء! يا سادة لديكم قضية، أو هكذا تعتقدون، فهل سيقنعنا خلعكم ملابسكم أو لبسكم الأكفان بعدالتها؟ أنا أقول لكم: لا. فقط ستتحولون إلي فرجة. أما الاحتجاج المقبول المعقول المنظم فيكون عن طريق لافتات في صلب الموضوع، وعن طريق ورديات بينكم تتناوبون فيها الوقوف حتي تتمكنوا من مراعاة بيوتكم ومتابعة أسركم وأحوال أبنائكم فهم لهم عليكم حقوق، وهذا من شأنه أن يطيل نفس الاحتجاج، وقدرتكم علي الاستمرار فيه لفترات طويلة. «3» في خلال ثلاثة أيام عرفت مصر حادثي احتجاج استخدما وسيلة جديدة ومزعجة هي قطع الطريق. الواقعة الأولي قُطع فيها الطريق الدائري من قبل أهالي «جزيرة محمد» احتجاجا علي نقل تبعية منطقتهم إداريا من محافظة الجيزة إلي محافظة أكتوبر. أما الواقعة الثانية فكانت في كفر الشيخ، وقطع فيها الأهالي الطريق الدولي احتجاجا علي توقف تدفق مياه الري إليهم، وما رأوه من تقاعس حكومي في حل المشكلة وإصلاح الأعطال. ولا أود هنا أن أناقش عدالة مطالب هؤلاء وأولئك، وأنا أراها عموما ذات عدالة ووجاهة، ولكنني أود أن أناقش فلسفة وقفات الاحتجاج نفسها. فأنت تخرج معلنا احتجاجا للأهداف التالية: أولا: لفت الأنظار لقضيتك. ثانيا: عرض هذه القضية. ثالثا: وهو الأهم: كسب تعاطف الرأي العام لهذه القضية، مما يشكل ضغطا علي الجهة المحتج عليها. فأنت إذا قطعت الطريق خسرت تعاطف الرأي العام معك ومع قضيتك، وأعطيت الأمن فرصة لاستخدام مبرر للقوة ضدك. فهل هذا هو مبتغاكم؟ «4» الصحفي والنائب «مصطفي بكري» أضرب عن الطعام احتجاجا علي تعديل قانون الدوائر الانتخابية، الذي أصاب دائرته بالتفتيت، مما اعتبره هو أنه يضعه في موقف انتخابي صعب في انتخابات البرلمان المقبلة. ولم أتعاطف مع هذا الموقف إطلاقا. لماذا؟ لأن الإضراب عن الطعام في المتعارف عليه هو أقصي أشكال الاحتجاج، وهو مثلا الشكل الذي اتبعه الزعيم الهندي الخالد غاندي للاحتجاج علي رفاقه في رحلة الكفاح حين كادوا يقودون البلاد إلي حرب أهلية طاحنة غداة الاستقلال الذي كافحوا من أجله. وقد كان مصطفي بكري يصول ويجول معترضا علي الفساد، ولم يضرب عن الطعام حين أفلت بعض من اعتبرهم مجرمين دون عقاب. كما صال وجال إبان العدوان علي غزة، لكنه لم يضرب عن الطعام احتجاجا علي استمرار غلق المعابر التي طالب هو بفتحها. وله صولات وجولات معروفة ومشهود لها في كشف صفقات الغاز لإسرائيل ولم يضرب عن الطعام حتي يتوقف تدفق غاز مصر إلي إسرائيل. لكنه أضرب عن الطعام حين أحس أنه سيفقد مقعد البرلمان الذي يشغله عن دائرة التبين و15 مايو. وأعتقد أنه لم يحسن حساب هذه الخطوة بحنكة سياسية. فقد كان بإمكانه مثلا أن يرتب لمجموعة من ناخبيه أن يقوموا هم بالإضراب لأنهم هم الذين سيخسرون حسن تمثيله لهم، بدلا من أن يحتج هو علي ما بدا وكأنه خسارة شخصية. وكان بإمكانه أن يتقبل الأمر بابتسامة الواثق الذي لا يهمه منافسه ويعلن ثقته في الناخب المصري مهما أبدع ترزية الدوائر في قصقصة ريشه، ويوضح بالمنطق والحجة لهذا الناخب سوء نية الحزب الحاكم في قانونه السيئ. والحقيقة في رأيي المتواضع، أنه إذا لم يفلح تصدر مصطفي بكري للمشهد السياسي علي مدي عشرين عاما، والصحف التي أصدرها ورأس تحريرها، وصولاته علي شاشات «الجزيرة» و«المنار» و«الساعة» والشاشات المصرية الحكومية والخاصة يوميا، إذا لم يفلح كل هذا في حشد أصوات في أي دائرة في بر مصر تكفي لإيصاله للبرلمان، فإن الخطأ ليس في القانون. أخيرا، يا شعب مصر، الذي ثلث من لهم حق الانتخاب فيه غير مقيدين، والذي يغيب ثلاثة أرباع المقيدين فيه عن الإدلاء بأصواتهم: ما رأيكم، علي سبيل الاحتجاج يعني، أن تذهبوا إلي صندوق الاقتراع وهو ليس ببعيد، وتقولوا : لا؟