أمس اكتمل العيد الثالث والثمانون لساحر القصة القصيرة، «تشيكوف» العرب، يوسف إدريس (19 مايو1927 1 أغسطس 1991).. هذا المبدع الفذ الذي كان أعظم من رسم بالكلمات أجمل وأصدق وأعمق صور البشر البسطاء والفقراء والمهمشين، هؤلاء الذين انحاز لهم وأحبهم وغاص في عوالمهم الرثة البائسة ناقلاً إلي الورق (بكثافة وبراعة يعجز عنهما الوصف) أذكي المشاعر وأقوي المعاني الإنسانية وأكثرها قدرة علي الخلود والبقاء ما بقيت في دنيانا ضمائر حية وقلوب لا تتحجر وأرواح تهفو للروعة والجمال. عزيزي القارئ الكريم.. تعال واحتفل معي في السطور التالية بعيد يوسف إدريس، وهيا بنا نقرأ ونستمتع معا بواحدة من تحفه المفرطة في البساطة والرهافة وعبقرية الإيجاز.. «نظرة» كان غريبًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه، في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق، رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه، حتي أصبح ما تحمله كله مهددًا بالسقوط. ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيري، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلاً كثيرة وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معًا فيميل رأسها هي.. ولكنني نجحت أخيرًا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها بأن تعود إلي الفرن، وكان قريبًا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه. ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أري لها رأسًا وقد حجبه الحمل.. كل ما حدث أنها انتظرت قليلاً لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة «ستي»... ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتي عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين. وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السواد في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلاً حتي امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة. وأخيرًا استطاعت الخادمة الصغيرة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار. واستأنفت سيرها علي الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك. وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء علي ما يرام والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون. ولم تلمحني، ولم تتوقف كثيرًا فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف استدارت علي مهل واستدار الحمل معها، وألقت علي الكرة والأطفال نظرة طويلة. ثم ابتلعتها الحارة.