كان جالسا على مكتبه الخشبى الذى أصبح وليمة للنمل الأبيض ، مكتب يبدو كمريض لوكيميا فى أيامه الأخيرة ينتظر الموت فلا يأتيه ، ينظر عن يمينه ويساره ثم إلى الأمام فتتسلل سبابته فى خفية كلص محترف إلى أسفل أنفه وتداعب شفتيه ثم تنطلق كشهاب مارق إلى منخره، تتوغل أكثر فأكثر ، يا أحكم الحاكمين لو استطاع ذلك الرجل أن يدخل ذراعه كله إلى أنفه لفعل ، يتحسس المخاط الذى لا يزال رخوا بداخله فإذا ما تيبس انتزعه كما يتنزع عزرائيل أرواح ركاب ميكروباص انقلب لتوه على الدائرى (انقلب ملهاش دعوة بالسياسة) . بدا لى أن كل من فى هذا الكون ينالون قسطا من الراحة إلا الوقت فهو لا يكف عن المرور أبدا وسبابة هذا الرجل التى لا تكف عن مضاجعة أنفه يععععع.
أخذت أحدق به واجما كساعة معطلة وعندما لاحظ ذلك ، سجد أنفه المكلوم شكرا لله بعدما توقفت أنامله عن التنقيب عن البترول هناك، أطرقت نظارته الطبية رأسها وتركت عدساتها عيناه وقفزت للتشبث بالثلث الأخير من أنفه الايل للسقوط ثم صاح بى "خير يا دكتور ؟!"
قلت فى ثبات : " أنا عندى تحقيق .."
الان حان الوقت لكى تكتمل بشاعة المشهد ، فالسبابة التى أمضت نصف حياتها فى أنفه ولم يطب لها العيش هناك تنتقل حاليا إلى طرف لسانه ثم إلى الدفتر الموضوع أمامه ، الجراثيم والفطريات فى العالم تدين بالفضل لأمثال هذا الملوث، ما سر ولع موظفي الحكومة ببناء مستوطنات للبكتيريا ؟!
تمتم بكلمات تحتاج إلى شامبليون لفك طلاسمها ثم قال: " ممم ..أنت دكتور السنان بتاع مستشفى المطرية ؟"
تنهدت فابتلعت كم لابأس به من التراب المتناثر فى كل مكان ، تراب يكفى لتغطية الربع الخالى وقلت فى برود: " اه هو أنا !"
أمسك بقلم رصاص قصرت قامته حتى صارت أقصر من نهار الجمعة فى أيام الحظر ثم سألنى فى براءة:
-حضرتك ليه بقالك 13 يوم غايب؟
طفح الكيل ! تحركت الدماء من جميع أطرافى واتجهت فى مسيرات حاشدة نحو وجهى الذى تأجج احمرارا كحجر معسل فاخر ثم صرخت ليدور الحوار التالى :
-ليه ، أنت بستألنى أنا غايب ليه ؟!!!!!
أنت عارف أنا مرتبى الأساسى من الحكومة كام ؟ 288 جندى !! طب ليه مش 290 مش فاهم ؟!، يعنى انا لو وقفت كل يوم قدام المستشفى اركن العربيات هاخد فلوس اكتر (يعد السايس ثالث أغتت مخلوق فى الكون بعد الدبانة ويوسف الحسينى ويقوم بتحصيل حوالى 2 جنيه مصرى من أى سيارة ،متوسط مرتبه شهريا يعادل 1500 جنيه)
حاول أن يهدىء من روعى فقال:
-يا توكتور ...
-عارف يا نطع أنت الأدوات اللى بنخلع بيها للعيانين بنحطها فين ؟ بنحطها فى جردل مكتوب عليا "بيوكلينا" ، عارف بيوكلينا دى مين ؟!!! بتاعة مفيش بقعة تستعصى علينا ! الشركة دى كانت بتعمل إعلانات من أيام ما كان شركة انجوى اسمها دولسي، دول حتى مش عايزين يجيبولنا جردل عليه القيمة مكتوب عليه داونى أو برسيل ..بيوكلينا يا ولاد بنت ال *****؟!
عارف ميس عواطف ؟!
بدأ الخوف يظهر فى ملامح الرجل بعدما تأكد أننى مخبول فبدا لونه مائلا إلى الأصفر الممتقع ورد فى جزع:
-بتبقى بتاكل طرشى فى الاوضة اللى جنبى ، بتاكل طرشى فى العيادة يا ولاد الكلب !
-عارف عم أحمد ؟
-عم أحمد مين بس يا توكتور ؟!
-عم أحمد ده راجل عنده 70 سنة بيبيع سبارس قدام المستشفى جه يخلع مرة ومرضيش يقف فى الطابور مع العيانين وكان عايز يخش العيادة بالعافية !
الرجل الان يبصم بالعشرة أننى مجنون وأغلب الظن أن ممرضى السرايا الصفرا فى طريقهم إلينا ، ازدرد ريقه وقال بصوت يرتجف:
-لا ما يصحش ، ما ما ما مالوش حق !
-عارف عمل إيه لما قلت له يقف فى الطابور ؟!
-إيه ؟
غلت الدماء فى عروقى ، تستطيع أن تشم رائحة الشياط إذا كنت جالسا إلى جوارنا وصحت:
-سب لى الديييييييييييين ، قال لى "يلعن دين اللى خلقك !" عمرك سمعت الشتيمة دى ؟!!!!!!!! وهددنى لو مدخلش من غير طابور، ولاده هييجوا يقتلونى ، راجل ميت 3 مرات سب لى الدين يافندى ولما رحت لمديرة المستشفى اشتكى لها قالت لى " وانا هاعمل ايه يا دكتشور؟!" مفيش حد بيعرف يقول دكتور عادى ليه ؟ فييييييه ايييييييه يا ولاد *****
-يا توكتور بس صبرك بالله ، نعمل محضر ونسجن عم احمد والمديرة ولا تزعل نفسك !
-ازعل نفسى ؟! عارف يا محترم انا جاتلى عيانة عايزة تخلع ضرس لابنها ولما قولت لها الضرس ده مش هيطلع مكانه لو خلعته ومش هيعرف ياكل ، عارف قالت لى ايه ؟ بدا التأثر واضحا فى عينى الموظف وخلع نظارته ووضعها على المكتب وقال:
أخرجت مسدسى من جيبى الخلفى ووجهته إلى وجه الموظف الذى انفجر باكيا وقبل أن أضغط على الزناد قلت:
-عرفت أنا غايب ليه ؟
فى عام 1980 موظفون في مستشفى لاس فيجاس تم طردهم بعد اكتشاف انهم كانوا يتراهنون هل سيموت المريض ام لا،فى عام 2013 لا يستطيع الموظفون فى وزارة الصحة المصرية الرهان على ذلك لأنهم يعلمون جيدا أن جميع المرضى سيموتون بسبب دخولهم مستشفيات الحكومة.