لا زال المنصف المرزوقي يخلط الأوراق، وينطق بالهرطقة باعتباره باحثا ورئيسا ومثقفا، وهو ما يجعلنا نضع علامات استفهام على المفاهيم الثلاثة وعلاقته بها من الأصل. وقبل أن أبدأ، أود الإشارة فقط إلى أن السفارة التونسية في مصر لم تكن تختلف كثيرا عن مثيلتها الليبية إبان عهد القذافي، حين دعت عددا من المثقفين لمناقشة كتاب للمرزوقي في القاهرة بمشاركته وفي حضوره، وكان ذلك في عهد أصدقائه الإخوان. ولا يمكن أن نتصور أن هذا اللقاء كان يمكن أن يمر دون لقاء جانبي مع نظيره آنذاك محمد مرسي أو لقاء عام في مكتب الإرشاد. ولكن لم يحدث ذلك، بسبب أحداث في تونس، وأحداث في مصر أطاحت بأحبائه ورمز الديمقراطية التي يهرطق بها. فلماذا لم يأت المرزوقي كمثقف وباحث ليناقش كتابه في القاهرة بصرف النظر عن النظام القائم، وهو الذي يجيد الفصل دائما، وعندما يحتاج لذلك، بين كونه باحثا، وبين كونه رئيسا شريكا لنظام يميني ديني متطرف؟
يقول المرزوقي في مقابلة مع شبكة (سي إن إن): "أنا متفاجئ، بل ومصدوم من حقيقة أن هناك ليبراليين ونشطاء حقوق الانسان يدعمون عزل رئيس تم انتخابه ديمقراطيا ، وقبول هذا الحجم من العنف ضد الشعب .. هذه الأمور صادمة لي ولكل ديمقراطي ، والأمر المهم حول هؤلاء الليبراليين أنهم خانوا الديمقراطية".
إذن، المرزوقي يبدأ التخوين. لا ندري بالضبط، هل يفعل ذلك كمثقف أم كرئيس؟ وماذا تعني بالضبط "خيانة الديمقراطية"؟ فمحمد مرسي كان منتخبا بالضبط مثل حسني مبارك، وبنفس المعايير العرجاء. وتبلغ الهرطقة مداها عندما يتم الخلط بين الديمقراطية المقتصرة على صناديق الانتخابات فقط، وبين الديمقراطية كآلية أو ميكانيزم لمنظومة حياة ومنظومة علاقات سياسية – اجتماعية - تشريعية. وهذا بالضبط نفس مفهوم حسني مبارك ومحمد مرسي للديمقراطية والذي يتطابق مع المفهوم الأعرج والقاصر للمرزوقي.
فالمرزوقي يقول: "أنا لا أدافع عن الإخوان المسلمين، وكان عليهم الإبقاء على الحوار مفتوحا كما هو الآن في تونس، ومرة أخرى أقول إن مشكلتي هي ليست الإخوان المسلمين، بل هي الديمقراطية، وأن ما يحصل الآن خطير جدا على الديمقراطية، وأعتقد أن الديمقراطية ستعود في مصر إلا أنها ستحتاج وقتا طويلا".
عن أي ديمقراطية تتحدث؟ وبأي صفة: مثقف أم ديمقراطي، أم مثقف ديمقراطي، أم كرئيس؟ أنت تدافع عن الإخوان، ولا داعي للمغالطات والحذلقات الرخيصة. وأنت لا تدافع عن الديمقراطية، وإنما عن جملة من المفاهيم الخاصة بك والتي انتهت صلاحيتها بانتهاء عصر المثقفين تجار المواقف والتاريخ، وعن مجموعة من القواعد العرجاء التي تسكن رأسك منذ القِدَم. فالديمقراطية لم تكن أبدا، ولن تكون، صندوق الانتخابات. ولا يمكن لأحد، مهما كان ديمقراطيا وعانى من أجل أفكاره ويريد الثمن بأثر رجعي، أن ينكر ذلك أو يتجاهله. فعن أي ديمقراطية تتحدث؟ عن ديمقراطية حسني مبارك، أم عن ديمقراطية محمد مرسي؟ أم عن صناديق الاقتراع التي جاءت بمرسي كما جاءت بمبارك؟ إذ أن الكلام والهرطقة والرطانة الرخيصة عن الديمقراطية في ذاتها ولذاتها، لا يمكن أن يكون له محل من الإعراب في ظل غياب الآليات والميكانيزمات، وفي ظل نظام يكرس للطائفية والعنصرية ويؤكد على التمييز الديني والعرقي والثقافي نظريا وعلى أرض الواقع في آن واحد، ويعلن بكل بجاحة وانحطاط عن خذلان المرأة بالتمييز بينها وبين ليس فقط أخيها وتوأمها الرجل، بل وأيضا بينها وبين أختها المرأة بسبب الدين والعرق والثقافة.
كان من الممكن أن نفهم كلام المرزوقي عن "ديمقراطيته" في حال التعامل أيضا، وضمن هذا المفهوم، مع جملة المظاهر التي أحاطت بجماعة الإخوان المسلمين ومنهجهم العقائدي وطروحاتهم للدين والدولة، وممارستهم قبل اعتلاء السلطة وبعدها. ولكن فكرة الفصل والتجزئ وخلط الأوراق تسيطر على المرزوقي – المثقف، وهذا ليس غريبا على طروحات المثقفين النظريين ذوي الياقات البيضاء الذين يتعاملون مع العمال والفلاحين والفقراء والشعوب ككلمات مجردة في الكتب السميكة لمفكري وثوريي القرن التاسع عشر. بينما فكرة الكذب والتخوين والإنكار تسيطر عليه ليس فقط كرئيس، وإنما أيضا كرئيس جاء من العدم ليشارك جماعة يمينية دينية متطرفة ليحقق في نهاية المطاف أفكاره القديمة البالية التي عفا عليها الزمن.
المنصف المرزوقي يتحدث عن الثورة وكأنها كلمة مجردة في التلمود أو في الكتب السميكة التي يهواها مثقفو الحانات والزمن الجميل وهواه الثورات النظرية على المقاهي. فهو يقول إنه متفهم صعوبة تكوين الدولة بعد الثورة! إن الثورة التي تأتي بأمثالك، وبأمثال الغنوشي ومرسي، لا يمكن أن تكون ثورة، ولا يمكن أن يتصور من قاموا بها وشاركوا فيها أن زملاءهم ضحوا بأنفسهم لكي يأتي أمثالكم لتدوسوا على الحلم الإنساني للفقراء والمهمشين والكادحين بهرطقاتكم عن الديمقراطية وأحلامكم القديمة العرجاء لتجربوا تحقيقها على جثث الفقراء والأطفال والنساء.
ولكن عن أي دولة تتحدث؟ عن دولة تونس الغنوشية – المرزوقية التي تصادر حقوق السيدات التونسيات، أم عن دولة تونس المرزوقية – الغنوشية التي ترسل ببناتها إلى جهاد النكاح من أجل إقامة دولة الخلافة الغنوشية – المرزوقية والعكس؟ هل تدري، أيها المثقف الرئيس الباحث الثوري، أن تونس غاضبة وممتعضة منك ومن صديقك الغنوشي؟ هل تعرف أنه علي الرغم من حصافة "ديمقراطيتك العرجاء"، أن سيدات تونس سيقدن ضدك وضد أصحابك وأصحاب الباب العالي الأردوغاني ثورتهن الحقيقية، لا للحفاظ على مكاسبهن، وإنما من أجل تحررهن منكم ومن هرطقتكم، وبالمرة تحرير مجتمعهن برجاله ونسائه؟ وهل تعرف أنه على الرغم من كل الخلافات والانقسامات والمهاترات في الاتحاد العام التونسي للشغل، فسوف يكون هذا الاتحاد الأقوى إقليميا ودوليا الشوكة التي تؤرقك وتؤرق أصحابك اليمينيين الدينيين المتطرفين؟
يبقى فقط، أن أذكرك بأن تونس، بشعبها وببحرها وبرمالها وبخضرتها الفتية، لديها عشرات بل مئات الأمثال الشعبية التي تترجم واقع الحال، بالضبط مثل ما هو موجود عند المصريين. ونحن عندنا نقول "القحبة تلهيك وترزيك وتجيب اللى فيها فيك"، و"إن تابت القحبة، عرَّصت"! هذه أمثال شعبية وغيض من فيض مما تركه لنا أجدادنا! فعن أي مواجهات تتحدث؟!
المرزوقي يقول: "الإخوان المسلمون هم طيف كبير من الإسلاميين وهناك المسلمون الجدد، وسيكون هناك مواجهة بين المتطرفين العلمانيين من جهة والمتطرفين الإسلاميين من جهة أخرى، وهذا أمر سيكون غاية في الخطورة، ليس على مصر وحسب بل على المنطقة، وهذا ما نتجنبه في تونس".
إذن، فالحديث يدور عن الإخوان المسلمين، والمسلمين الجدد، والمتطرفين الإسلاميين، والمتطرفين العلمانيين. ويدور أيضا عن "المواجهات". إنها نفس مصطلحات الخارجية الأمريكية عن "الإسلام الديمقراطي الجديد" وقدرته علي مواجهة "الإسلام المتطرف"! أي، من الممكن هدم الدولة، وإهدار الثقافة والإرث الحضاري مقابل أن يتمكن "الإسلام الديمقراطي الجديد" من القضاء على "الإسلام المتطرف" ولا شئ آخر لدينا، ولا أطراف أخري تسعى لإقامة دولة الإنسان والتحديث والتقدم. ولكن لماذا لم تتمكن الخارجية الأمريكية ومروجو أفكارها ومنفذوها من القضاء على "الإسلام المتطرف" في أفغانستان والعراق وليبيا وسورية ونيجيريا ومالي؟! ستكون مخطئا تماما، إذا تصورت أن كلامي هذا يعني انحيازا لبدائل أخرى فاشية أو استبدادية. الكلام هنا لا يحتمل وجهين أو معنيين أو قيمتين.
أما في ما يتعلق بعبارتك الأخيرة "وهذا ما نتجنبه في تونس"، فأنت إما كاذب أو مخدوع أو متقاعس. وربما تعيش أوهامك التي يحققها لك مندوب الباب العالي الأردوغاني، صديقك الغنوشي، وأصبح الشارع أبعد منك وعليك. سيدات تونس، أيها المثقف الرئيس، يحفرن الآن في الصخر للحفاظ على تونس الخضراء ببناتها وصبيانها، بسيداتها ورجالها.. شباب تونس، شهداء وأحياء، في مختلف مناطق البلاد تأبي أرواحهم السكينة والعودة إلى مهاجعها قبل التأكد من تخلص تونس من كابوس "الديمقراطيين الجدد - الإسلاميين الجدد".. عمال تونس، أيها المثقف الثوري المترهل، يعرفون طريقهم وطريق رفاقهم وطريق بلادهم!