فى الحلقة الأولى من الحوار الذى بدأناه مع ناصر أمين عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان ومدير المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة، تطرق الحديث إلى فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة، مؤكدا أنه علق على طريقة الفض باعتباره حقوقيا، وليس سياسيا، مشيرا إلى أن العمل الحقوقى فى مصر منذ نشأته لديه أزمة فى الخلط بين الرأى السياسى والعمل الحقوقى، نظرا للتضييق الذى سببه نظام مبارك على النشاط السياسى مما جعل كثيرين من نشطاء السياسة يتجهون إلى العمل الحقوقى، فسبب هذه الأزمة. ملف العدالة الانتقالية، بدأه أمين فى الحلقة الأولى، لكنه فى هذه الحلقة يعرض بالتفصيل للبرنامج محدِّدا المواد، التى يقترحها الحقوقى والمحامى الشهير، حتى يتحقق الغرض منه، فإلى نص الحوار:
■ ما برامج العدالة الانتقالية؟
- برامج العدالة الانتقالية خمسة، أولها المساءلة والمحاسبة، ويحدد بشكل واضح تاريخ الجرائم التى يجب المحاسبة عليها، وتحديد الجرائم الأشد خطورة التى ارتكبها نظام أو تنظيمات، هنا نتحدث عن آلاف الجرائم، والجرائم كلها تعد انتهاكات لحقوق الإنسان وتبدأ من جرائم تمس الحق فى الحياة انتهاء بجرائم تمس حرية الرأى والتعبير، ولو أثقلت المفوضية بالمسألة والمحاسبة فى كل هذه الجرائم، فمعناه أن المفوضية بحاجة إلى دولة، لا إلى جهاز إدارى، لذا ففى فلسفة العدالة الانتقالية يتم تحديد الجرائم الأشد خطورة، لتقع ضمن برنامج المحاسبة، وهنا تختلف الجرائم الأشد خطورة من دولة إلى أخرى، ففى بعض البلدان تكون الإبادة، ثم القتل فيصبح التعذيب ليس مشكلة، وبعض البلدان الجريمة الأساسية هى جرائم الحرب، وبلدان أخرى هى الاختفاء القسرى مثل المغرب هناك أكثر من 300 ألف مختفيا قسريًّا، وفقا للواقع المصرى الجرائم الأشد خطورة، هى القتل والمساس بالحق فى الحياة والتعذيب، والاختفاء القسرى لدينا عدد قليل، لكن يمكن إدراجها ولدينا بعض النماذج مثل رضا هلال، ونقترح هذه الجرائم الثلاث أن تكون ضمن برنامج المساءلة والمحاسبة وتخضع لجهاز تحقيق خاص بمفوضية العدالة الانتقالية، لأنها يجب أن تكون مدنية وفى داخلها مكون قضائى، عبر قضاة تحقيق يتم ندبهم، يتعاملون مع كل التحقيقات وعلى تنسيق مع جهات التحقيق العامة سواء وزارة العدل أو مكتب النائب العام.
فى ما دون هذه الجرائم تتم معرفة الحقيقة، وهى البرنامج الثانى، هذا بالنسبة لمجتمع يريد غلق ملفات الماضى، لن يغلقها إلا بعد أن يعلم الحقيقة، وهى ضرورة مهمة طالما هناك أمور وحقائق غائبة عن الشعب وممارسات لم نعرف لماذا وكيف حدثت؟ وإذا لم تطبق برامج الحقيقة سوف تكون الدولة مهددة بارتكاب هذه الأفعال فى المستقبل.
■ ولماذا معرفة الحقيقة فى كل الجرائم بما فيها التى مر عليها عشرات السنوات ضرورة؟
- معرفة الحقيقة بالنسبة إلى الضحايا، خصوصا أُسر جرائم الاختفاء القسرى، تجعلهم يهدوون ويعرفون إذا كان ابنهم ميتا أم على قيد الحياة، لأن أكبر آلام انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة هى الاختفاء القسرى، ربما أكثر من حالات القتل، حيث يتم دفن المتوفى ويتم زيارة قبره، لكن حالات الأسر تكون مدمرة نفسيا، لأنهم لا يعرفون إذا كان ابنهم حيا أم ميتا، وفى بعض البلدان أحد أهم مطالب الضحايا وهم لا يريدون شيئا غير معرفة إن كان ابنهم حيا أو ميتا فقط، حتى يأخذوا العزاء.. ومعرفة الحقيقة حق للمجتمع ليعلم وضمانة لعدم التكرار، لذا برنامج معرفة الحقيقة تشكل فيه لجان تقصى حقائق، وهى لجان محايدة لها معايير بالغة الدقة فى اختيار أعضائها ولها صلاحية الحصول على أية معلومات من أى جهة، لذا لا بد من مكون قضائى يمكّن اللجان من البحث والتدقيق والتعاون مع وزارتى الداخلية والعدل وكل الجهات لفتح وغلق الملفات والحصول على المعلومات، وهناك قاعدة فى الدول الديمقراطية تقول «الخطأ مرة واحدة»، بمعنى أن معرفة الحقيقية هى جزء من برنامج أكبر، وهو برنامج ضمان عدم التكرار.
■ كيف يمكن تحقيق برنامج ضمان عدم التكرار؟
- بمنتهى البساطة عندما تحدث ثورة فمعناها أن هناك مشكلة كبيرة أدت إلى ثورة الشعب على النظام لإسقاطه، سواء نظام مبارك أو مرسى، ومعنى ثورة الشعب أن هناك مشكلات عضالا كبيرة وجرائم ترتكب، فالثورة والمجتمع يجب أن يطرحوا سؤالا ويجيبوا عنه، كيف نضمن عدم تكرار كل الجرائم التى شاهدناه فى 100 سنة؟، سنجد جرائم كثيرة سببها تشريعات موجودة أو تشريعات غائبة.
انتشار جرائم التعذيب فى مصر جزء، منها أنه لا يوجد تشريع قوى رادع، أو يعطى لمؤسسة حق الرقابة على أماكن الاحتجاز، فنحتاج معالجة تشريعية، هناك جرائم سببها أن مؤسسات تطبيق القانون بها خلل، يبقى نحتاج إصلاح مؤسسى، عندما نتحدث عنه بعض الناس بتنزعج، خوفا على أماكنهم، البرنامج يتعرض لمقاومة شديدة تصل إلى بعض الأحيان لاغتيال أعضاء المفوضية، البعض يتعامل مع الإصلاح المؤسسى على أنه تدمير المؤسسة كلها، وهذا خطأ وخطر كما كان يفكر نظام الإخوان المسلمين.
■ كيف يمكن إصلاح «الداخلية»؟
- إصلاح «الداخلية» يكون من أول المناهج وتربية الطلاب وجميع قيادات الوزارة يجب أن يخضعوا لبرامج تدريب على حقوق الإنسان، ونجيب عن سؤال: لماذا توحشت فى عصر مبارك؟
جزء منه تشريعى وجزء آخر لعدم وجود رقابة تُخضع الوزارة إلى الرقابة المجتمعية والقضائية، ونجد أن مكتب النائب العام مسؤول عن الرقابة، فلماذا لم يقم بدوره؟ هل إعاقة من النظام أم متقاعس عن دوره؟ لو متقاعس يستبدل النائب العام أو تدعم جهة النيابة بأعداد أكبر، ربما لم تستطع الرقابة لعدم وجود عدد كاف، كل هيئة يجب أن تخضع لتحليل. ولاحظوا أننا نصلح مؤسسات دولة أو تنظيمات، لو الجرائم ارتكبت من وزارات تخضع للإصلاح ولو ارتكبت من تنظيمات يجب أن تحل، أو توفق أوضاعها وفقا للقانون بعد الاعتراف بالذنب وأنها تفكر خطأ، وتعتذر إلى المجتمع، وما أقوله ليس رغباتى أو ما أتمناه، أو رأيى السياسى فى ندوة، بل أتحدث عن قواعد، فنجد أن «الداخلية» تحتاج إلى إصلاح.
■ هل هناك مؤسسات أخرى تحتاج إلى إصلاح؟
- وزارة الإعلام تستخدمها الدولة لتبرير الانتهاكات، وسنجد الدولة فى نظام مبارك والإخوان، استخدموا الإعلام المصرى، لتبرير الاستبداد بالتحليل أو تشويه المعلومة أو نقلها خطأ أو التعتيم، وإلا سيكن معرضا لاستخدام هذا الجهاز مرة أخرى بنفس الطريقة.
كنا طالبنا بتطبيق العدالة الانتقالية من أبريل 2011، قلنا وقتها بضرورة إصلاح الجهاز الإعلامى وحذرنا من عدم إصلاحه وتم استخدامه مرة أخرى، يجب إصلاح أجهزة الدولة طبقا لقيم الثورة، ووفقا لقيم الديمقراطية الشفافة، وهذا ما حدث ماسبيرو، أدى ذات أدائه مع مبارك لصالح نظام الإخوان، كان هناك مقاومات، لكن لا يترك الأمر للمقاومات الفردية.
المؤسسة القضائية تحتاج لإصلاحات مؤسسية، بداية نضمن لها استقلالها عبر قانون السلطة القضائية، ثم يتم مناقشة النظام القضائى، ولماذا المؤسسة القضائية لم تستطع أن تواجه هذه الانتهاكات على مدار العقود الماضية، فى بعض الأحيان كانت تواجه، وبعضها تغل يدها، وأحيانا كانت تحجب عن المحاكمة، حتى لا يكون الكلام مجرد حمل على القضاء، فى بعض المرات كان القضاء يدافع عن حقوق الإنسان بكل قوة، وفى مرحلة أخرى كان النظام يغل يد القضاء فيرسل القضايا للقضاء العسكرى، أو نظام الإخوان يحاصر المحكمة حتى لا تحكم،
■ ما البرنامج الرابع فى العدالة الانتقالية؟
- ذكرنا المسألة والمحاسبة، ومعرفة الحقيقية، وضمان عدم التكرار، البرنامج الرابع هو برنامج تعويض الضحايا، فهناك جرائم فى الماضى، مما يعنى وجود ضحايا ومتهمين، والمجرمون تعاملنا معهم فى البرنامج الأول..
وقبل الخوض فى هذا البرنامج لا بد الإشارة أن فى برنامج الحقيقة ليست كل الحقائق ستعرف بسهولة حتى لو عندك صلاحية، وإحدى وسائل معرفة الحقيقة هى العفو، شرط أنه لا عفو فى جرائم دم مثل القتل والتعذيب، ما دون هذه الجرائم مثل اعتقال عشوائى أو احتجاز دون وجه حق، يمكن للمجتمع وليس الدولة، أن يمنح الأشخاص العفو مقابل المعلومة، إذا قلت ما حدث تستفيد من العفو، لم تقل تدخلا لبرنامج المحاسبة، ويجب أن تنشأ لجنة العفو داخل المفوضية تتلقى الطلبات بسرية من أى شخص موظف عام شرطى، عضو فى تنظيم، يريد طلب العفو، وتوضع قواعد توضح جرائم قد تستحق العفو، وأحد شروط العفو يقوم الشخص بكشف اللثام التام عن الجريمة ولا يقدم معلومات منقوصة، فيكون العفو مقابل الحقيقة، لكشف مناطق معتمة، صراع هذه الهيئة فى الوجود هو صراع الثورة بتحقيق مطالبها على الأرض للانتقال لمجتمع ديمقراطى.. تعويض الضحايا يتوجع منه المصريون، لأن قطاعا كبيرا منهم ضحايا، وستحدد الجرائم التى يمكن أن تعود فيها الدولة ويمكن أن تتسع دائرة التعويض.
■ هذا إذا ارتكبت الدولة.. ماذا إذا كان حزبا سياسيا أو جماعة؟ من سيعوض هنا؟
- نفس الموضوع، التعويض هو مهمة الدولة، لأن الدولة هى التى سمحت بتقصيرها أو إهمالها فى وجود جماعات ارتكبت جرائم، لذلك يجب أن توضع قواعد لمنع تأسيس أى جماعات أو تنظيمات على أساس دينى أو عسكرى، وتتخذ الدولة تدابير قاطعة فى هذا الوقت، والتعويض يجب أن يجُب الضرر، بتعويض مادى ملائم ومناسب، والأهم هو التعويض الأدبى بأن تعلن الدولة خطأها وتعتذر إلى المجتمع وأنها ملتزمة بتعويض كل الضحايا، والتعويض المعنوى جزء منه إدماج الضحايا فى المجتمع خصوصا فى مؤسسات الدولة، فتنقل الطاقة السلبية إلى طاقة إيجابية داخل مؤسسات الدولة، ويشعرون بأهم تكريم ويعطون عطاء شديدا، بعض دول أمريكا اللاتينية يتم وضعهم فى هيئات تصل لمستوى الخارجية فيكونون أعظم سفراء لها تجعلهم، متحدثين باسم الدولة بعد أن كانوا ضحايا، أو إطلاق أسمائهم على شوارع وميادين، وتقديمهم للمجتمع باعتبارهم أبطال وشهداء ضحوا لكى نعيش أفضل.
■ وما البرنامج الخامس؟
- هو إحياء الذاكرة، رغم أنه برنامج يبدو بسيطا وفيه ترف، إلا أنه مهم، والغرض منه إحياء ذاكرة المجتمع بالجرائم سنويا، لماذا يعذب اليهود العالم ويذكرونهم بالهولوكوست؟ حتى من يفكر فى تكرارها لا يستطيع التنفيذ، واقترح أن يبنى نُصب تذكارى للشهداء، وبرنامجنا يفكر فى عمل نصب تذكارى للشهداء فى ميدان التحرير يكتب فيه أسماء شهداء الثورة ويظل أمام الناس وكذلك ضحايا كل الجرائم والذين تم تعذيبهم وإيذاؤهم، لإحياء ذاكرة الأمة، فالبرنامج جسر يعبر من الاستبداد إلى الديمقراطية.
■ هل تواصلت مع الوزارة بهذا المقترح لمراجعة الموقف بأن الأمر كبير؟
- الموضوع ليس مطلبا ولا أمنية، بل هو متجاوز للخطر فى حالة عدم تحقيق ذلك، سلامة وأمن البلاد معرضان إلى الخطر، وتخطى مرحلة من فضلكم، هو لازم وضرورى.
■ هل لديك انطباع بأن هناك إرادة سياسية من الحكم الحالى لتحقيق العدالة الانتقالية؟
- نعم، الشىء المتحقق على أرض مصر من 30 يونيو حتى الآن هو أننى أشعر بأن هناك إرادة سياسية فى مصر لتطبيق برامج العدالة الانتقالية، وتحدثت أكثر من مرة مع الدكتور مصطفى حجازى مستشار الرئيس ووجدت لديه معرفة، ووعيا يصل إلى درجة التطابق فى الأفكار فى ضرروة البدء فى العدالة الانتقالية، وتحدث فى هذا الأمر فى أكثر من مناسبة، وهذا إنجاز، وما يلى الإرادة السياسية هى الإرادة المجتمعية، وهذا الأمر ممكن أن نتحكم فيه بتأسيس مفوضية، لحشد أكبر طاقة شعبية مجتمعية حول الهيئة وحمايتها..
طبعا شىء مشكور وجيد أن تنشئ الحكومة وزارة للعدالة الانتقالية يرأسها شخص فاضل هو المستشار الدكتور محمد أمين المهدى، ومشكورا دعا أكثر من منظمة للقائه، لكن للأسف حتى الآن لم أشرف بلقائه عقب توليه منصبه للمناقشة، أتمنى اتخاذ خطوات لتأسيس هيئة العدالة الانتقالية المصرية، لما لها من دور كبير للانتقال لنظام ديمقراطى.
■ لقد ذكرت «هيومن رايتس ووتش».. هناك علامات استفهام كثيرة حول أدائها بعد 30 يونيو؟
- رأيى أن أداء «هيومن رايتس ووتش» محتاج إلى مراجعة فى هذه الأحداث، وأنا أدعو الأصدقاء فى المنظمة لفتح تحقيق داخلى مستقل حول كيفية ومدى موضوعيتها فى الأحداث، وأعتقد أنهم سيكتشفون أخطاء مهنية جوهرية بالغة الخطورة، إن لم يتم التحقيق يمكن أن ترقى إلى مستوى النية غير السليمة أو سوء النية..
وهنا أريد أن أقارن بين موقف «هيومن رايتس ووتش»، ومنظمة العفو الدولية، مثلها مثل كل المنظمات، ومثلنا أدانت العنف والعنف المضاد، والاعتداء على الحق فى الحياة، لكنها ألحقت بتقرير آخر يكشف عن أن هناك ممارسات تعذيب جرت داخل اعتصام رابعة، وهذا هو الموقف الحقوقى الحقيقى، أريد أن أوضح أن المنظمات الحقوقية دورها كشف الحقيقة عما يجرى من انتهاكات بصرف النظر عن مصدرها، لو كان مصدرها السلطات تقول ولو جماعات تقول، هناك معايير حقوقية حاكمة، نحن ليس لنا علاقة بأصل النزاع، ومنظمات حقوق الإنسان مثلها مثل الصليب الأحمر، عندما يندلع النزاع المسلح بين دولتين، لا تقف عند مسألة: مَن الذى بدأ بالعدوان، بل تقوم بعلاج المصابين على الأرض، بل تفكر فى اللحظة للتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، منظمات حقوق الإنسان وضعها مماثل ليس لها علاقة بأصل النزاع السياسى، لذلك أخطات كثيرا جدا من المنظمات بمناقشة ما حدث فى 30 يونيو، هل هو انقلاب أم غير انقلاب، ليس له علاقة بالعمل الحقوقى على الإطلاق وليس له علاقة بطبيعة دور منظمات حقوق الإنسان التى تحدث على الإرض، وإن رصدتها عليها أن ترصد بموضوعية وبدقة وتوثيق وتحدد ما مصدر الانتهاك وطبيعته وتعلن عنه إذا كان حكوميا أو غير حكومى.