أنا رجل الإسعاف الذي يخفق دائماً في التصدي للموت فقرر أن يساعده.. أنا الآن أحد معاونيه.. ولا أتقاضي أجرا كي أمنح الراحة الأبدية لراغبيها من المتألمين أمنح هذه الراحة للجميع ولا أنتظر أن يطلبها أحد بهذه الكلمات وما تلاها صدَّر «وجدي الكومي» روايته الجديدة «الموت يشربها سادة» والصادرة حديثا عن دار العين، وربما كانت هذه الكلمات قد كشفت للقارئ قصة الرواية من غلافها، مما حرم القارئ من المفاجأة التي فجرها الكاتب من خلال قصة «نعيم» رجل الإسعاف الذي قرر بعد رؤيته لآلام المرضي فضلاً عن ظروفه النفسية وأمه المريضة أن ينهي حياة مرضاه تخفيفا عن آلامهم أثناء عمله في سيارة الإسعاف. ويتفنن «وجدي الكومي» كعادته - كما في روايته السابقة «شديد البرودة ليلا» - في استخدام أسماء أبطاله، فدائما ما ينتقي الأسماء التي تعطي مدلولات لأصحابها، ولذلك اختار اسم المسعف البطل «نعيم»، هذا الاسم الذي يشهد علي الظروف النفسية والازدواجية التي يعيش فيها صاحبه، فنعيم يعيش في «جحيم» حقيقي سواء في عمله الذي لا يري خلاله إلا الموت في أبشع صوره حيث ينقض لينشب أظفاره في أجساد ضحاياه أمام عيني «نعيم» العاجزتين، أوجحيمه في حياته الخاصة حيث ترقد أمه مستكينة هامدة تحت مشرط الجراح مختزلة في مجموعة من المحاليل والأنابيب وهي تعاني من سرطان القولون الذي تعاني منه العائلة كلها مما سيضطرها لحمل كيس فضلاتها علي جسدها، أو جحيمه مع أشباح الحالات التي مرت عليه في عمله. وعلي الجانب الآخر للاسم، سنجد أن «نعيم» هو النعيم الفعلي _علي الأقل في ظنه_ لكل من يساعدهم علي إنهاء حياتهم في سيارة الإسعاف.. فهو يشفق عليهم من آهات الألم والإصابات المزمنة للحوادث.. يشفق عليهم حين يري الموت يجلس بجوارهم هادئا مبتسما في ذروة آلامهم ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.. ولذلك يقرر «نعيم» أن يريح مرضاه وينهي علي الموت متعته وتأهبه. و«نعيم» ينهي حياة المرضي المتألمين في سيارة الإسعاف دون مشورتهم غالبا.. فهو يعتقد أن موتهم أفضل للتخلص من هذه الآلام ومن حياة قادمة لا تغني ولا تسمن من جوع.. ويظن أن الحياة التي يعاني فيها الإنسان من مرض أو من تداعياته هي حياة بلا قيمة ولا فائدة.. لذلك يقول لنفسه وهو ينهي حياة أحد المصابين علي الطريق السريع في حادث سيارة حطم عموده الفقري: «سيبقي طوال العمر قعيدا يسدد في أقساط عربته التي حطمته، مقعد متحرك أو كيس براز، هكذا يتصور الأطباء الحلول الجيدة لمواصلة الحياة». ورغم اقتناعه بموقفه في إنهاء معاناة المرضي دون علمهم، إلا أنه لم يجرؤ أن يفعل ذلك مع أمه وهي ترقد أمامه في أسوأ حالاتها.. بل إنها الوحيدة التي تواصلت روحها معه لتتوسل إليه أن ينهي معاناتها.. معاناة الألم ومعاناة كيس التبرز الذي ستحمله علي جسدها مستقبلا.. ولكنه ينهار باكيا ويعجز عن ذلك. أبدع «وجدي الكومي» في وصف المرض في الرواية أيما إبداع.. فهو يشعرك أن مرض سرطان القولون هو نهاية العالم.. هذا المرض الذي ضرب عائلة «نعيم» كلها في مقتل فتوارثوه بديلاً عن المال والأرض.. حيث يصبح الكيس البلاستيك المليء بفضلات المريض هو أقرب أقربائه.. ورغم وجود «نعيم» في عمل لا يعبأ كثيراً بالموت والمرض لاعتيادهما، فإنه يتعامل مع هذا المرض تحديدا بقدسية خاصة، فهو مرض عائلته السابق والحالي، ومرضه المقبل، ولذلك تهون عليه كل الأمراض والحالات الأخري.. حتي إنه يتهاون بتلك السيدة التي تصعد للميكروباص لتستجدي الناس لعلاج زوجها المصاب بسرطان الرئة.. فما أهون مرض زوجها بجوار مرض عائلته كلها! يقول نعيم: عبر النافذة أري المرأة تعد أوراق النقود وتفصلها من ورقات الإعلان الذي تروج به لمأساة زوجها، تضع النقود في خبيئة في طيات ملابسها ثم تصعد الميكروباص، وتعيد نشر الأوراق علي الجميع، وحينما تقبل نحوي وتنحني لتضع الورقة علي ساقي، أسألها في سرعة: - زوجك.. هل يتبرز في سهولة؟ ولا ينفصل «وجدي الكومي» عن أحداث مجتمعه، فتارة يأخذك إلي مظاهرات وسط البلد والرائد «جبر» الذي يتفنن في ضرب شباب المتظاهرين، وتارة يأخذك إلي هذا الثراء الفاحش لبعض رجال مصر الذين انفصلوا كليا عن هذا الشعب المطحون، وتارة يأخذك إلي حالات التحرش وأزمات الشباب، وساعد علي هذا طبيعة عمل البطل الذي يتعامل مع كل فئات المجتمع وفي كل الظروف.