كانت القاهرة كما هي: زحمة وضوضاء وحياة ممتدة وقذارة وعظمة. إنها المدينة التي لا تنام في الشرق الأوسط، وتضج بالطاقة البشرية. ويذهب أغلب تلك الطاقة بالنسبة لفقراء القاهرة وهناك كثير منهم في اقتناص سبل العيش من مخالب ظروف قاسية. أما الأجانب الذي يتوقعون إنجاز أمورهم فربما ينتهي بهم الأمر إلي إحباط شديد. وربما كان الإحباط الشديد، المتبوع بعودة سريعة إلي أوروبا، هو ما يريده نظام الرئيس حسني مبارك لمحمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأدت دعوات البرادعي للتغيير في مصر إلي حملة علي الإنترنت لترشيحه للرئاسة، وهي حملة «لا تخبو». ويبدو نظام مبارك من الانزعاج إلي حد تصوير الرجل علي أنه أجنبي بعيد عما يجري في مصر بعد فترة عمله في الخارج. وتأتي المصداقية السياسية للبرادعي في مصر وفي الشرق الأوسط من تشكيكه في الادعاء بوجود أسلحة دمار شامل في العراق التي استخدمت لتبرير غزوه بقيادة أمريكية عام 2003. وبدا الرجل، جالساً في حديقة بيته الرائع قرب الأهرام، هادئاً في رد فعله علي الحملة ضده في بعض منافذ الإعلام الرسمي. وقال البرادعي: «أظنهم مرعوبين من التأثير المتنامي للدعوة للتغيير، انظر إلي تصويري علي اني شرير، أظن نظام الرئيس بوش صورني شيطاناً، قارن ذلك بالشيطنة التي يتم تصويري بها في بلدي. أنا الشيطان المتجسد». ويأتي كل هذا الاهتمام من أنصاره وممن يزعجهم في النظام علي الرغم من أن الدستور المصري لا يسمح لمستقل بالترشح للرئاسة. ويسمح فقط للمسئولين من أحزاب قائمة ومرخصة منذ خمس سنوات علي الأقل بالترشح للرئاسة. ويقول البرادعي إنه لن يفكر في الترشيح إلا إذا تغير الدستور، ويري أنه من الأفضل أن يقاطع الانتخابات الرئاسية العام المقبل بدلا من المشاركة في عملية يعتقد أنها مصممة للإبقاء علي الوضع الراهن. فهو يري أن مصر وصلت إلي طريق مسدود بعد 30 عاماً من حكم مبارك، ويقول: «الناس متعطشة للتغيير، ولن أشارك في الهزل الديمقراطي». حتي مؤيدو الرئيس مبارك يقبلون بفكرة أن التغيير آتٍ، كما يعبر عن ذلك بحذر شديد الدكتور حسام بدراوي العضو البارز في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم وصاحب واحد من أكبر المستشفيات الخاصة في القاهرة فيقول حسام بدراوي: «أي شخص يبقي في السلطة لفترة طويلة يلتف حوله من يريحهم استمرار الوضع الراهن، من المهم أن يري الناس تغييراً، فتلك طبيعة البشر». لقد تطلب الأمر بث صور للرئيس مبارك وهو هزيل جسمانيا وإن كان حياً يتنفس للقضاء علي الإشاعات بأنه توفي بعد جراحة استئصال المرارة. ومبارك موجود في الحكم منذ 30 عاماً، ويمسك بزمام الأمور بقبضة من حديد مستخدماً قانون الطوارئ الذي يحد من حقوق المواطنين لضمان بقاء الأمور كما هي. ولم يوقف مطلقاً تطبيق قانون الطوارئ الذي فرضه منذ تولي منصبه عقب اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981. وغالبا ما يستخدم قانون الطوارئ ضد الاخوان المسلمين، أكبر جماعات المعارضة وأكثرها تنظيماً، وهي جماعة محظورة قانوناً لكن يسمح لها بالعمل طالما لا تعرقل سير القافلة تماماً. وإذا حاول أحد من قادة الجماعة أو ناشطيها تجاوز الحدود الضيقة التي يسمح بها النظام، فليتوقع فترة إقامة في أحد المعتقلات المصرية البشعة. لكن مبارك سيبلغ من العمر 82 عاماً الشهر المقبل، وليس في أفضل حال صحياً، ويفكر أصدقاؤه وأعداؤه فيما سيأتي من بعده. يقول أيمن نور، الذي ترشح ضد مبارك في انتخابات 2005 المشكوك فيها: «مصر كالمرأة الحامل التي تنتظر الوضع، وبلغ حملها ثمانية أشهر وثلاثة أسابيع وستة أيام، والكل يعرف أن مولوداً آتٍ، لكن لا أحد يعرف ما شكله». وقد أمضي نور في السجن أربعة أعوام بتهمة التزوير بعدما تصدي لمبارك في الانتخابات الرئاسية. وتقول الحكومة انه دخل السجن لأنه مذنب، لكنه يرجع الأمر إلي استمرار اضطهاد أي منافس محتمل لرئيس يحكم عبر نظام قمعي. ويقول المنتقدون إن مبارك حاول أن يجعل من نفسه فرعوناً عصرياً، ويعني ذلك أنه، إذا سمحت صحته، سيرشح نفسه مجددا في 2011 إذا لم يتنح لصالح ابنه جمال، الذي يجري إعداده للمنصب. ويعتقد البرادعي أنه يزيد من صعوبة تجديد النظام لنفسه بنقل الرئاسة إلي مبارك الابن. والسؤال الآن هو: هل بمقدور المعارضة، أياً كان شكلها، أن تخترق سلطة النظام حين يذهب مبارك، وكيف سيؤثر رحيله في منطقة غير مستقرة؟!. وتعتبر مصر نفسها قائدة العالم العربي، لكنها لم تلق بثقلها في السنوات الأخيرة. وربما يغير من يلي الرئيس مبارك هذا الوضع، فعلي الأقل هناك قلق لدي الأمريكيين وحلفائهم، بمن فيهم إسرائيل، إذ اعتمدوا علي الرئيس مبارك ليبقي مصر ساكنة.