مسخ الشيء أي قبّحه وشوّه صورته، وقد وردت جملة على لسان زكي بك في رواية (عمارة يعقوبيان) لكاتبها علاء الأسواني، حين كان يصف الزمان المصري: إحنا في زمن المسخ، وبرغم أن زكي بك كان يترنح سكرانا من كثرة ما شرب، وهو يردد هذه الكلمة المؤلمة؛ فقد وصف زماننا المصري من 1954 إلى 2011 بوصفه الحقيقي.. هل تظنني عزيزي أتجنى على بلادنا وزمانها ؟ خد عندك.. مسخ المصريون أرض بلادهم الخضراء، فأصبحت مسخا متعدد الألوان، كئيب الطلعة، تعلوها المباني والعمارات، دون أدني لمحة من فن أو ذوق في الشكل أو التصميم أو الألوان، أو راحة لعيون الناظرين.
مسخ المصريون آثارهم؛ أثمن ما ترك لهم أسلافهم، فبنوا حولها مساكنهم، وأكلت قواعدها مياه صرفهم، وأهملت وزارات الثقافة المتعاقبة متاحفهم، فأصبحت مبانيها قديمة متهالكة، وسرقت محتوياتها وهربت وبيعت لحساب الكبار والحكام.
مسخ المصريون زراعتهم، بعد أن كانت بلادهم تطعم العالم حبوبا وقمحا، وتكسو العالم كتانا وقطنا، أصبحت تأكل القمح المستورد، ويلبس أهلها الملابس المستوردة، وبارت الأرض، وفشِل الزرع ونشف الضرع، واعتمدنا في زراعتنا على (خبرة) اليهود التي قصمت ظهرها، واعتمدنا في غذائنا على القرض، لا على الأرض.
مسخ المصريون نيلهم، هبة الله لهم عبر تاريخهم، فبنوا السد العالي نقطة ضعفهم على مجراه، وجاروا على أراضي واديه فزادوها ضيقا، وصرفوا سموم مصانعهم وقذارة مجاريهم في مياهه، وبعد أن كان النيل معبود الفراعنة ومقدس الأقدمين؛ أهانه ومسخه المصريون المحدثون.
مسخ المصريون أخلاقهم وقيم حياتهم، فانقلب الصدق خيبة، والإخلاص في العمل أصبح هبلاً، والتنطع والتبطل أصبحا نصاحة وذكاء، وانعدمت لديهم الرغبة في العمل، وحلت مكانها الفهلوة واقتناص الفرص والسمسرة والعمولات.
مسخ المصريون قواعد دينهم، فقصروه على المظاهر الشكلية والقشور الخارجية، وأهملوا قيمه وأسس عقيدته، إلى درجة أن نسي الكثير منهم يوم القيامة، فانتشر سب الدين، وسب الأحياء والميتين، وأصبح ما نمارسه من الدين بضع شعائر يمارسها الأفراد، ولا تؤثر على تصرفاتهم وسلوكياتهم.
مسخ المصريون فن عصورهم الذهبية، فكوميديا الريحاني وإسماعيل ياسين، أصبحت بالمسخ إفيهات جنسية ونكات قميئة، وروائع أم كلثوم والسنباطي؛ قلّدها المغنون والممثلون بأصواتهم المنكرة، وسرق مقدمو البرامج الساخرة تحف عبد الوهاب الوطنية، فأسقطوا على ألحانه الرائعة كلماتهم السخيفة الضائعة.
مسخ المصريون الشخصيات البارزة في المجتمع، فالمُعلم الذي طلب أحمد شوقي القيام له تبجيلا لأنه كاد أن يكون رسولا، شاهت صورته في عقول أجيال (مدرسة المشاغبين)، فأصبحت شخصية المعلم مهزأة مهينة، وتدهورت قيمته معنويا واقتصاديا، والشيخ والمتدين أهينت شخصيته في الأفلام والمسلسلات، والمأذون – باعتباره رمزا للدين – حرص مخرجو الأفلام على إضحاك المشاهدين على هيئته ولغته وطريقته، ورأينا شيوخا يسبون الناس على الفضائيات، ورأينا مشاهير يدعون إلى حرية الشذوذ الجنسي.
مسخ المصريون الألقاب التي يلحقونها بالأسماء، فأصبح كل من هب ودب باشا، والسباك والميكانيكي باشمهندس، وبتاع الكشري ومبلط السيراميك دكتور، والممثل الكوميدي أصبح مفكرا، والمحاسب أصبح داعية، والضابط المتقاعد خبير أمني أو خبير استراتيجي، والشاب الصايع خبير أناركي، والمحامي أو كاتبه مستشارا، ومجهولون نكرات أصبحوا فقهاء دستوريين.
مسخ المصريون مظاهر الفرحة والسعادة، واختزلوها لتتراوح بين الضوضاء والإزعاج، فانتشرت أجهزة (الدي جي) في ربوع الوطن لتستخدم في كل مناسبات الأعراس والأعياد، وافتتاح المتاجر والمحلات، وأصبحت مكونا أساسيا في المقاهي والمطاعم والمتنزهات العامة، ناشرة الضوضاء والفوضى والنشاز.
مسخ المصريون التعامل مع الطريق على كل مستوياته ومستوياتهم، راكبين وسائقين وراجلين، فأصبحت شوارع مصر وطرقها مقالب زبالة، وبعد أن كانت القيادة (فن وذوق وأخلاق)؛ أضحت القيادة فَتْوَنة وبلطجة وقلة أدب.
مسخ المصريون حدائقهم المزهرة التي ورثوها عن عصور الملكية الزاهرة، فأهملوها وسرقوا نادر نباتاتها وأشجارها، ولم يرعوا الله في رعايتها وسقايتها والعناية بها، فأضحت خرائب تنعق الغربان على أغصانها، وتنعي أخضر أيامها الخوالي.
مسخ المصريون نظام تعليمهم، وبعد أن كان معلمو وأطباء ومهندسو وعمال مصر هم من يبنون الدول؛ أصبحوا لا حول لهم ولا قوة ولا تأثير، وأضحت جامعاتهم لا قيمة لها بين جامعات العالم، لتدهور مستوى التعليم الأساسي والفني والجامعي.
مسخ المصريون نزاهة القضاء المصري العتيد، فقضاة اليوم هم من أشرفوا على جميع انتخابات واستفتاءات العهد السابق، فهل تغيروا بين عشية وضحاها ؟ أبدا هم ذات القضاة الذين عُيّن معظمهم في سلك النيابة والقضاء بالوراثة عن آبائهم، وبالوساطة والمحسوبية علشان خاطر أرباب نعمتهم، على حساب أقرانهم من النابهين المستحقين المظلومين، الذين لا ينتمون إلى العائلات القضائية، أو إلى الوساطات النيابية.
مسخ المصريون لغتهم العربية التي كانت، واستحدثوا في إعلامهم ومجلاتهم وصحفهم اللهجة العامية، وأهملوا تدريس العربية في المدارس والجامعات، فضعفت لغة الأجيال الناشئة، وضعف معها انتماؤهم إلى بلادهم، وطغت لغات الغرب على لغة القرآن، حتى كتب المصريون الألفاظ العربية بالحروف اللاتينية، وانقرض أدباء وشعراء ومفكرو وفلاسفة العربية من المجتمع الأدبي والعلمي واللغوي.
مسخ المصريون جميع العلاقات بينهم، علاقة رجل الشرطة بالمواطن، علاقة المالك بالمستأجر، علاقة صاحب العمل بالعامل، علاقة المسؤول بسائليه، علاقة الموظف بوظيفته، علاقة نائب البرلمان بناخبيه، علاقة رجال الأعمال بمال الدولة ومال الشعب، علاقة المسلمين بالمسيحيين.. علاقة المصريين بمصر..
والآن.. وبعد أن مر أكثر من عامين على الثورة، يحاول بعضنا هذه الأيام تقييم نتائجها، وهنا كانت الصدمة، فلا الثورة آتت ثمارها، ولا حتى رأينا أو شعرنا بأي آثار لأي إصلاح في هيكل الدولة، فالمسوخ أحاطت بنا من كل جانب، وتشابكت أذرعها وقرونها وذيولها وفلولها، لتخلق حولنا مسخا رهيبا، وكلما بدت في الأفق خطوة في الاتجاه الصحيح؛ تدافعت إليها المسوخ لتجهضها، وكلما بدأت محاولة للإصلاح؛ تكاثرت أذرع المسوخ الشيطانية لتنال منها، وهو ما نراه واضحا جليا في حياتنا هذه الأيام.
أنظر حولك عزيزي، لترى ما أصبحت مصر فيه بعد حكم مبارك، وستجد أننا مسخنا بأيدينا؛ عبر ستين عاما من الحكم الديكتاتوري؛ كل قيمة، وكل مبدأ، وكل إنجاز، وكل ثقافة، وكل مَعْلَمٍ من معالم حضارتنا، ومع كل وجوه حياتنا التي مُسخت، وفي معمعة المسوخ التي أحاطت بنا من كل جانب، فقدنا الثقة بكل ما ومن حولنا، لكننا أبدا لن نفقد الثقة في الله تبارك وتعالى.
لقد قام بالثورة المصرية مصريون قاوموا عوامل المسخ التي سلطها الحاكم الظالم المتآمر على شعبه لعشرات السنين، وكانت المفاجأة التي أذهلتنا أن المسخ قد طال كل مناحي حياتنا، من الهواء والماء حتى ضمير الإنسان المصري، ولن تقوم لنا قائمةٌ إلا بأن نتخلص من كل هذه المسوخ الهائلة، بتقطيع أذرعها الشيطانية بالطريقة القرآنية: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ) - الرعد 11، ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) - الحج 40.. وإسلمي يا مصر.