«هل هناك أزمة في النقد؟» أو «أزمة النقد العربي» أو «أسباب أزمة النقد» عناوين تحتل مكانا بارزا في الصحف خاصة في الصفحات الثقافية. وغالبا ما يكون الموضوع في شكل تحقيق صحفي يسجل آراء بعض النقاد والأكاديميين والمبدعين. دائما ما تسيطر نبرة النواح والولولة علي هذه الموضوعات، مع التأكيد علي نعي ضعف النقد في أحسن الأحوال وموته في أسوئها. اللافت للنظر في هذه التحقيقات الصحفية- التي تبقي مثارا للحديث بعض الوقت- أنها لا توضح المقصود بالضبط بمصطلح «النقد». لا يشرح الصحفي القائم علي الموضوع ولا المتحدثون ما إذا كان المقصود بالنقد هو تقديم الأعمال الإبداعية في الندوات والملتقيات الأدبية، أو ما إذا كان المقصود هو الكتابة عن تلك الأعمال في الصحف والمجلات، أو ما إذا كان هدف النقد الذي يتحدثون عنه هو أن يقول أحدهم إن العمل الفلاني «رائع» في حين أن العمل «العلاني» بشع. للأسف يتضح في معظم الأحيان أن هذا المبدع (لاحظ كلمة المبدع) أو ذاك غاضب؛ لأن عمله لم يحصل علي ما يستحقه من الرواج في القراءة، أو لم ترضه مثلا ندوة واحدة في حين كان لغيره أكثر من ندوة، مع خبر هنا وخبر هناك، وأخبار علي الإنترنت، مع وعد غائم بالترجمة (أو جائزة؟). في وسط خضم هذا الغضب أو لنقل التنفيس عنه (وهو كثير) والتحيزات والتحالفات والعداوات لا ينتبه أحد إلي أن الأزمة النقدية ليست إلا أزمة في العقل. فالطبيعي أن يتناول المتحدثون مثلا منهجية القراءة أو موقع العمل علي الخارطة الأدبية أو المداخل التأويلية المحتملة للنص، لكن أن تقوم الأطراف المشاركة في مثل هذه التحقيقات (والندوات وورش العمل وورش الكتابة والملتقيات والمؤتمرات والمقاهي) بالتنفيس عن غضبها كالطفل الذي كسرت لعبته بدلا من أن تسعي إلي تقديم إنتاج نقدي محترم يشكل ركيزة للعمل فهذا ما يثير العجب. هل يعني ذلك أن الإنتاج المعرفي مغلق للتحسينات؟ بالطبع لا. لكن من ذا الذي يتحمل التناول النقدي لأي عمل أو خطاب فيما عدا التناول الذي يكيل المديح؟ وهل يعني ذلك أن هناك تناولاً نقدياً لابد وأن يكيل الهجاء؟ بالطبع لا، وإلا تحول الأمر إلي مهزلة ينتج عنها «أعطوه كيسا من الذهب» أو «اقطعوا رأسه الآن». النقد بالتأكيد ليس مدحاً أو هجاء، بل إن النقد هو رؤي محتملة لقراءات مغايرة بكل مناهجه وأساليبه وإيديولوجياته. لا يتحمل الكاتب أو الناشر أو كل طرف له علاقة بالعمل (الأصدقاء المخلصون مثلا) أي شكل من أشكال النقد سوي شكل واحد: المديح، والتأكيد علي فردية العمل وتميزه وعظمته وجماله وروعته. كل ذلك بالرغم من أن العمل قد أصبح ملكية عامة من حق أي قارئ أن يقوم بالتعليق عليه، أو يقدم قراءة مغايرة له (شريطة توظيف المنطق)، وفي هذه الحالة- أي عندما يقوم القارئ بواجبه- يسعي الكاتب لكشف لغز المؤامرة التي تحيط به ليدرك في النهاية أن النقد العربي يعاني أزمة، وينسي أن الأزمة في العقل وليست في النقد. بعد فترة لا بأس بها من التأمل أدركت أن تعليقات قراء الإنترنت تحولت إلي جزء أصيل من المسألة النقدية؛ فجميعكم بالتأكيد عانيتم الأشخاص ذوي الأسماء المستعارة الذين يتركون تعليقا مليئا ببضعة تهويمات فيبدأ معلق آخر في الرد وتتوالي التعليقات إما لهجاء الكاتب أو لمدحه، أو لاتهامه بشيءٍ ما حدث في مكانٍ ما مع شخصٍ ما، أو يتحول الأمر أحيانا إلي مشاجرة كلامية بين القراء المعلقين. وقد شهدت ذلك بنفسي في أزمة البوكر حتي إن أحدهم حاسبني علي تعليق أحد القراء علي حوار نشر معي!! هكذا تحولت تعليقات القراء إلي جزء من الأزمة، ولكن تعليقات القراء نفسها تحتاج إلي دراسة، فالقارئ غاضب دائما، يعرف الموضوع أكثر من الكاتب، ويعرف عن الكاتب أكثر مما يعرف الكاتب عن نفسه، كما أن رأيه لابد وأن يكون أكثر صوابا وحكمة من رأي الكاتب، واختصارا لابد أن يكون هو الكاتب ولكنه يكتفي الآن بالتعليق أملا في إصلاح أحوال الكاتب. بشكل ما أصبحت التعليقات التي لا تسعي إلي أي نقد (إلا فيما ندر) منهجي أو بدء نقاش حقيقي هي التي تتحكم في الخطاب المعرفي السائد الآن. إذن أين الأزمة: في النقد أم في العقل؟.