تذكرك حدائق الحيوان بالإسكندرية بمحدودي الدخل.. ربما لأنها وجدت لأجلهم.. فهي تشبههم في فقرهم ومعاناتهم وبؤسهم.. حتي لتشعرك أنها ستقف مثلهم قريباً في وقفة احتجاجية صامتة للمطالبة بكادر أو بحافز أو بمنحة أو حتي تسوية معاش مبكر.. كما تشاركهم عراقتهم ومجد أجدادهم المنقرض باعتبارها ثاني أقدم حديقة حيوان في أفريقيا حتي حيواناتها تشعرك عندما تتأملها أنها حيوانات محدودة الدخل، ويذكرك بعضها بالحيوانات الضالة في الشوارع.. تنظر إليك في أسي وإحباط متسائلة في داخلها عن سلامة القوي العقلية لهؤلاء الذين دفعوا دم قلبهم لمشاهدتها والتصوير معها. بينما يتجول رب الأسرة من - فئة محدودة الدخل - مع أطفال داخل أسوارها الشاسعة الممتدة.. ويتغاض عن أقسام كثيرة بالحديقة تم غلقها لعدم وجود حيوانات بها.. وأقسام أخري تم حجب الحيوانات فيها عن الجمهور نظراً لأن بعضهم «بيتغابي» علي الحيوانات بدعوي ملاطفتها. ويتظاهر أنه لا يسمع إلحاح أطفاله لركوب بعض الحيوانات الذي سيكلفه جنيهين لكل طفل.. حيث إن كل حاجة داخل الحديقة ب 2 جنيه.. دخول الحديقة والتصوير مع الحيوانات واللعب معها وركوب الخيل.. والتنفس بجوارها.. يحبس أنفاسه ويبحث عن كراسي ليجلس عليها مع أطفاله فلا يجد. فتظهر مصريته الصحيحة في ملاءة تخرجها زوجته وتفترش بها الأرض وتخرج الفسيخ من أوان جلبتها احتفالاً بزيارة الحديقة.. وبعد الغداء وإلقاء الفضلات علي جنب دون مواربة يأخذ أطفاله ويذهب بهم إلي بيت الأسود ربما لأنه المكان الوحيد المجاني في الحديقة.. ثم يفاجأ بحارس الأسد يطالبه ب 2 جنيه عن كل مرة وضع فيها السيخ في فم الأسد.. يظن في البداية أن ال 2 جنيه ثمن الجروح التي أحدثها في فم الأسد بالسيخ.. لكن الحارس يؤكد له أنها ثمن قطعة اللحم التي أطعم بها الأسد.. يهرب مع أطفاله مع أول زئير قبل أن يطالبه طفل آخر بإطعام أسد آخر.. ويتمني في قرار نفسه لو كان الله قد خلقه أسداً لكان الآن يأكل اللحم كل يوم.. يذهب بأطفاله إلي ملاهي الحديقة.. تذكره بملاهي السبتية.. لا إنها أسوأ كثيراً.. ألعاب صدأة معظمها معطل.. ينظر لأطفاله وهو يفكر بأيهم سوف يضحي في تلك المراجيح.. فيدفع بأكثرهم شقاوة حتي يهدده فيما بعد أنه لو عمل كده تاني سيذهب به إلي ملاهي حدائق الحيوان.. لتقتص منه وتعيده إلي صوابه.. يتحسس بين الحين والآخر تذاكر الحديقة التي تذكره بتذاكر قطار الدرجة الثالثة وقد طبع عليها 2 جنيه.. يشعر بالحسرة وهو ينظر لاثنين من أطفاله في المرحلة الإعدادية استهلك منه جهداً لإقناع قاطع التذاكر بأنهما لم يتجاوزا الثامنة من عمرهما حتي يقطع لها تذكرة أطفال بجنيه واحد لكل منهما. يشعر لأول مرة في حياته بالفخر لكونه مصرياً.. حيث إن انتماءه لجنسية أخري كان سيكلفه 20 جنيهًا رسم دخول الأجانب.. يطلب أطفاله الذهاب إلي دورة المياه.. تقوده الرائحة إليها.. يفقد اثنين من أطفاله الخمسة وعيهم داخل دورة المياه لهول ما رأوه.. يحمل أطفاله في ذعر متسائلاً عن نقطة شرطة الحديقة ليحرر محضرًا للسيد وزير الزراعة علي ما اقترفه في حق أطفاله.. فيعلم أنه لا توجد نقطة شرطة بالحديقة.. يدعو علي السيد وزير الزراعة في سره بأن يتزنق سيادته فلا يجد سوي مراحيض حدائق الحيوان بالإسكندرية. كانت تلك فسحة رجل إسكندراني كادح داخل حديقة حيوان كادحة رغم الجهود التي تقوم بها إيمان مخيمر - مديرة الحديقة - لإنقاذها مما آلت إليه، وطلبها المستمر من الإدارة الأم في القاهرة إرسال حيوانات للحديقة لتسد نقص الحيوانات لديها، لتتمكن أخيراً من الحصول علي بعض الزواحف والبقر والغزلان بمناسبة شم النسيم. غضبت إيمان مخيمر عندما وصفنا الحديقة بأنها «فاضية» وعددت لنا حيواناتها وشرحت استعداداتها لاستقبال شم النسيم، وحكت عن خطتها لتطوير الحديقة التي ستبدأ مرحلتها الأولي: بتطوير المخازن والمطبخ والسلخانة. مرحلتها الثانية: بتطوير المتحف الحيواني الآيل للسقوط وصالة السباع وجبلاية القرود، ومرحلتها الثالثة بتطوير بيت الشامبنزي، وأبدت إيمان أسفها لحال ملاهي الحديقة وقالت: إنها مؤجرة لنادر كوتة الذي سينتهي عقده في أبريل الحالي وسيعاد طرح الملاهي من جديد، ولم تر إيمان الحل في نقل تبعية الحديقة من وزارة الزراعة إلي محافظة الإسكندرية، وقالت: إن هذا لن يفيد كثيراً! حيث كان اللواء عادل لبيب - محافظ الإسكندرية - قد أعلن عن رغبته نقل تبعية حديقة الحيوان لتكون تحت إشراف محافظته بدلاً من تبعيتها لوزارة الزراعة، وقال: إنه سوف يتقدم بطلب إلي وزير الزراعة لتولي الإشراف علي الحديقة أملاً في إصلاح أحوالها، رغم أن تجربة سابقة في عهد اللواء عبدالسلام المحجوب لم تفلح في إنقاذ الحديقة، ولم تستمر الحديقة في حينها تحت إشراف المحافظة لأكثر من عام أعادتها بعدها للوزارة إلا أن لبيب رأي أن بإمكانه إنقاذ الحديقة وإعادة الحياة إليها. وهو ما علق عليه دكتور نبيل صدقي - رئيس الإدارة المركزية لحدائق الحيوان - قائلا في تصريحات خاصة ل «الدستور» «ياريت.. بس ما يرجعهاش تاني»، في إشارة إلي فشل التجربة السابقة للمحافظة في إدارة شئون الحديقة وهي التجربة التي قال عنها صدقي المحافظة قبل كده أخدت الحديقة وأعطتها لشركة المنتزه لإدارتها وخربوها ورجعوها خربانة، وقالوا مش قادرين عليها، لأنهم أساساً خدوها عشان ياخدوا فلوسها مش بهدف تنميتها، كانوا فاكرينها بتكسب، وكانوا فاكرين إن الحيوانات بتآكل خس وجزر، ماكانوش عارفين يعني إيه حديقة حيوان، ولما لقوها خسرانة رجعوها تاني. وطالب صدقي محافظ الإسكندرية أن يقدم خطته أولاً لتطوير الحديقة وضمان إسنادها لخبراء في مجال حدائق الحيوان قبل طلب نقل تبعيتها للمحافظة مؤكداً أن الحديقة تحتاج إلي ملايين كثيرة لتطويرها، وأنه يحاول إصلاحها قدر الميزانية الضعيفة المتاحة له للإنفاق علي سبع حدائق حيوان تشرف عليها إداراته، وقال صدقي: لا توجد ميزانية محددة لكل حديقة وإن احتياجات كل حديقة تتكفل بها الإدارة المركزية، وإن رفض الإفصاح عن الميزانية التي تخصصها وزارة الزراعة لحدائق الحيوان.