قدومه للعالم لم يكن حادثاُ سعيداً بالمرة كتب - أحمد خير الدين جاء إلي الحياة، فرحلت والدته، ولم يمض بعدها سوي عام واحد فقط، ليلحق بها والده أيضا، ومن بعدهما ترحل عمته التي انتقل للعيش عندها. هكذا يمكنك اختصار قصة عبد الحليم حافظ مع فقدان والديه، لكن خلف هذه القصة مئات من التفاصيل المؤلمة التي لازمته منذ ولادته وحتي آخر محطات حياته، فالطفل الصغير الذي التقطته أخته "علية" محاولة أن تكون له أما بديلة، بدأ مشوارا من الألم والعذاب بالبحث عن سيدة ترضعه بعد وفاة أمه.. انتقل بين عشر سيدات ترضعه كل واحدة منهن مرة، ويحاول بعدها أخوه الأكبر إسماعيل، ومعه أخته علية أن يعتمدا علي نفسيهما ، ويبقوا في منزلهم الصغير، لكن تقاليد الريف وواجب خالهم عليهم، أجبرهم علي الانتقال إلي منزله، ومع مرور الأيام تثقل الحياة ونفقاتها علي الخال، فيضطر إلي أن يلحق عبد الحليم بأحد ملاجئ رعاية الأيتام، ليخفف ذلك من نفقات الأسرة وليتعلم الولد أساسيات القراءة والكتابة، وهناك يلتقي بعبقري آخر هو الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم.. كل هذه المحطات استرجعها عبد الحليم مع بداية وعيه، لتطبع في عقله صورة حزينة عن نفسه وعن مشوار حياته، ولتخلق لديه قناعة لازمته فترة طويلة من حياته، وهي أن قدومه للعالم لم يكن حادثا سعيدا بالمرة، وتفسره تلك النظرة الحزينة التي تلفت انتباهك بسهولة شديدة في وجه عبد الحليم، والتي حاول الكاتب محفوظ عبد الرحمن أن يقدم تفسيرا آخر لها علي لسان هيثم أحمد زكي في فيلم "حليم" فقال: «أنا طول عمري باغني للحب، بس مش بإحساس اللي حب.. بإحساس اللي محتاج له واللي بيتمناه.. اتمنيته وأنا صغير من أب وأم ملقيتهمش واتمنيته لما كبرت من حبيبة تعوضني الأيام والليالي اللي عشتها في عمري من غير حب». رفض نظرات الشفقة والحنان المغشوش كتب - أحمد خير الدين «عاش يتيمًا».. جملة من كلمتين فقط، تقرأها في سير وقصص حياة الكثيرين، وقد تمر عليها عيناك ببساطة شديدة أو ربما بقليل من التأثر، دون أن تدرك أن الكلمتين تركا في حياة صاحب قصتهما شحنة هائلة من العذاب والألم. أحمد زكي واحد من هؤلاء الذين ذاقوا مرارة الفقد واليتم، فلم ير والده الذي توفي وهو في أولي سنوات حياته، ونظرًا لصغر سن والدته، فقد تزوجت مرة أخري بعد أن وصل إلي الرابعة من عمره، لينتقل إلي العيش مع جده وجدته.. صدمات مؤلمة تركت في نفسه مرارة شديدة علي الرغم من منعه أن تظهر في ملامحه أو سلوكه أو يستسلم لها، فكتم طوفان الأحاسيس المؤلمة كي لا تنكشف فتلاحقه نظرات الشفقة التي يكرهها بشدة، حتي إنه كان يسد أذنيه ليهرب من سماع كلمة «يتيم» التي اشتهر بها في بلدته الزقازيق. كان يرفض هذا الحنان المغشوش الذي لا ينبع من إحساس صادق، بل من شعور بالواجب يجعل تلك التصرفات التي لابد أن تكون نابعة من عاطفة صادقة تخرج بشكل آلي يجرح ويؤلم بدلا من أن يحنو ويعطف، هكذا حكي عن يتمه.. يتحدث زكي عن زياراته القليلة لمنزل والدته بعد زواجها واستقبال رجل غريب له.. يربّت علي رأسه من باب الواجب والإحسان.. كبر زكي، وكبر إحساس الرفض لهذه التصرفات التي اعتبرها شفقة وحنانًا مغشوشًا معه، وولد ذلك لديه كرهًا شديدًا لزيف المشاعر، كما جعله يتخذ قرارا بإخفاء مشاعره عن كل من حوله، سواء كانت مشاعر سعادة وفرح أو حزن وألم، حتي لا يأتيه سؤال من أي شخص عن أسباب فرحه أو حزنه.. وبعد أن التحق بالمدرسة الثانوية الصناعية، اشترك في نشاط المسرح بها، اكتشف الشاب الصغير أن تلك الخشبة التي يقف عليها تمنحه مساحة ليخرج تلك المشاعر التي ظل يكتمها طوال هذه السنوات، فبدأ في البكاء من أعماق قلبه ليخرج رصيد الحزن والوجع المخزون في روحه. قذائف البيض والطماطم لم تقتل الحلم كتب - إيهاب التركي وهن جسده وبنيته الضعيفة انهزمت أمام صلابة شخصيته وعناده في مواجهة الإحباطات المتكررة في حياته.. ظروف طفولته التعيسة في قريته الفقيرة، وحياته البائسة في الميتم، وبدايات حياته الشخصية المتعثرة، ووظيفته الأولي كمدرس موسيقي تقليدي، لم تمنع طموح الفنان داخله من الانطلاق، وبقدر الطموح المحلق في عنان السماء، كان الإحباط حليفه يجذبه إلي الأرض، خصوصا في بداياته الفنية. بعد استقالته من مهنة التدريس عمل عازفا لآلة الأوبوا في الإذاعة، وبعد مجهود أجيز كمطرب وغني أغنيته "صافيني مرة" من ألحان «محمد الموجي» التي رفضها الجمهور لأنها كانت مختلفة، طالبه الجمهور بغناء أغاني «محمد عبد الوهاب» القديمة التي كانت النموذج السائد وقتها للغناء، فرفض أن يغني أي أغنيات إلا أغنياته الخاصة، بل حرص علي أن تصل أغنياته إلي الناس.. قذفه جمهور إحدي الحفلات علي مسرح لونابارك بالإسكندرية بالبيض والطماطم رفضا لغنائه ورفضا لأغنياته، لكنه أصر علي مقاومة الإحباط، حتي عندما انطلق نجمه وأصبح مشهورا صاحبه الإحباط حينما انتشرت الشائعات لتشكك في مرضه وتتهمه بلفت النظر بادعاء المرض، وأخري تتهمه بأنه كان بوق النظام الناصري وأنه جعل من فنه وأغانيه وسيلة لخداع الشعب. وفاته في النهاية أخرست من اتهمه بادعاء المرض، ومن عاشروه علموا أنه مثل كثير من فناني ومثقفي عصره، آمنوا بالثورة وبعبد الناصر. لم تقف إحباطات الحب والحياة أمام انطلاق جموحه وإبداعه الفني.. لم تمنعه حبات الطماطم والبيض التي قذفها عليه الجمهور في بدايته من أن يصبح أسطورة الغناء. كيف يحب هذا الأسمر السندريلا؟! كتب - إيهاب التركي لم يكن دور الفتي الأسمر الفقير المنطوي الذي قدمه في مسرحية «مدرسة المشاغبين» بعيداً عن حياته الحقيقية التي بدأها منطوياً فقيراً.. طفولته البائسة والوحدة كانت السبب وراء تفضيل أحمد زكي العيش في الفنادق لاحقاً، حينما أصبح مشهورا.. أحبطه الفقر كثيراً في بداياته، وكاد أن يتسبب في ألا يكمل تعليمه لاستنفاده مرات الرسوب.. كان محباً للتقليد، وكأنه يحب إحاطة نفسه بشخصيات كثيرة يقوم هو بتقليدها. نجح في الالتحاق بمعهد الفنون المسرحية وتفوق فيه، إلا أنه كان يرسب في اللغة الإنجليزية، وأسند له مدير المعهد وقتها الدكتور «رشاد رشدي» دوراً مهما في مسرحية «القاهرة ذات الألف وجه»، لكن الممثل «سعيد أبو بكر» اعترض عليه، ورأي أنه لا يصلح للدور، لكن الدكتور «رشاد رشدي» أصر عليه، وحينما بدأ رحلة التمثيل لم تتح له سوي الأدوار الصغيرة التي قام بها في المسرح، الي أن جاءته فرصة البطولة المطلقة أمام «سعاد حسني» في فيلم «الكرنك»، إلا أن موزع الفيلم اللبناني حسين الصباحي اعترض علي اختياره، وأشار إليه قائلا: كيف يمكن لهذا الولد الأسمر ذو الملامح المحروقة والشعر المجعد أن يحب السندريلا؟! وخشي أن يفشل الفيلم، وفضل استبداله بنجم معروف هو «نور الشريف». هذه الحادثة المحبطة كانت وراء ما قيل عن محاولته الانتحار بقطع شرايين يده، أو جرح يده بشدة، حينما حطم كوب ماء في يده لشدة غضبه حسب روايته هو. حلم في حياته الشخصية بدفء الأسرة، فتزوج من الفنانة الراحلة «هالة فؤاد» وأنجب منها ابنه الوحيد هيثم، ولكن تفشل الزيجة ليعيش مرة أخري وحيداً كلما مرت السنون.. توهجت مشاعر الجمهور نحوه كتبت رضوي الشاذلي: عرف حليم معني التألق والحضور الفني الحقيقي خلال سنوات مشواره الفني الذي لم يتجاوز الستة وعشرين عاما، وهي الفترة التي بدأ خلالها حليم من الصفر، ووصل إلي أن أصبح أسطورة بخطوات واثقة وناجحة في الوقت نفسه.. اختلف الناس حول أسباب تألق حليم، لكنهم اتفقوا علي كونه أهم مطرب ظهر في الوطن العربي كله، فهو الحبيب الذي تشجينا أغنياته مثل «تخونوه» و«حلو وكداب» و«قارئة الفنجان» و«في يوم في شهر في سنة»، بقدر ما تحتوي أغنيات أخري له علي معاني الفرحة الحقيقية مثل «صدفة» و«علي قد الشوق» و«جانا الهوي» و«وحياة قلبي وأفراحه».. هو صوت الثورة ورسولها للملايين، وهو الممثل قريب الشبه من أغلب المصريين في شقائهم ومعاناتهم. كل هذه العوامل كانت سببا في تألق حليم وتفرده الذي ظهر واضحا في أول احتكاك حقيقي له بالجمهور، في حفلة أضواء المدينة بحديقة الأندلس. الحفل الذي يعد أول احتفال رسمي بإعلان الجمهورية، والذي قدمه خلاله للجمهور فنان الشعب يوسف وهبي، وهو الاختلاف الذي أكدته اختياراته الفنية فيما بعد من خلال تعاونه مع شعراء وملحنين مثل صلاح جاهين والأبنودي وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي، وهي الاختيارات التي راهن عليها حليم فكسب الرهان وتحولوا جميعا فيما بعد لنجوم في عالم الشعر والتلحين، فصنعوا أسطورته وصنع تألقهم.. استفاد من موهبتهم، فتوهجت موهبته، وأصبح مستقرا في قلوبنا وقلوب أبنائنا وأحفادنا من بعدنا. هل كان يلبس الشخصية أم كانت تلبسه؟! كتب - مصطفي شاكر: من منا يستطيع أن يحدد أسباب تألق أحمد زكي وتفرده فنيا؟! الإجابة ببساطة لا أحد.. لأن هذا التألق لم يحكمه سبب واحد، وإنما عدة أسباب يصعب فصلها عن بعضها البعض، أو الحديث عن أحدها دون الآخر.. هل نتحدث مثلا عن اهتمامه الزائد بأدق التفاصيل، أم عن الكاريزما المرعبة التي كان يمتلكها الفتي الأسمر، أم عن موهبته الفذة التي لم تتكرر حتي الآن، فالممثل الذي استطاع أن يتقن الدور علي أقرب الناس إليه، عندما أصيب بالعمي في أواخر أيامه وأقنع جميع المحيطين به حتي ابنه هيثم بأنه قادر علي قراءة الجريدة.. ألا يستطيع أن يقنع المشاهدين بأدواره «ويسبكها» عليهم في كل مرة يقف فيها أمام الكاميرا؟ فهو الذي من كثرة إتقانه لدور المحامي في فيلم» «ضد الحكومة» وتعايشه مع الشخصية ظل مرتديا نفس البدلة لمدة خمسة أيام متواصلة حتي وهو نائم، وهو نفسه الذي شعر لحظة نزوله من علي المنصة في فيلم «ناصر56» بعد خطبة التنحي بأنه غير قادر علي الحركة من كثرة شعوره بالألم النفسي، حتي إنه ارتكز علي جانب السلم حتي لحظة وصوله لأرض الاستوديو. وهو نفسه الذي انبهر به المخرج عاطف الطيب في فيلم «البريء» عندما كان يجلس الطيب مع مدير التصوير سعيد الشيمي علي شاطئ الترعة «موقع التصوير الخارجي» في انتظار أحمد زكي ليشاهدا جنديا قادما من بعيد، فيقول عاطف للشيمي: «عايز زكي يبقي زي العسكري ده»، ليكتشفوا في النهاية أن الجندي المقبل من بعيد هو أحمد زكي بشحمه ولحمه.