اكتب هذا المقال والساعة تقترب من السابعة صباح السبت؛ بعد ليلة ليلاء كما يقولون، لم أذق فيها للنوم طعما مع سعال متواصل، نجم عن استنشاق كمية لا بأس بها من غاز الإخوان الجديد. وكنت للحقيقة جربت غاز المخلوع، ثم غاز العسكر، ثم غاز الإخوان في نوفمبر الفائت وبالأمس. وأشهد بالحق، أن غاز الأخوان أقوى وأشد تأثيرا من سابقيه.. ويبدو أن حكومتنا الجديدة، تراعي ربنا في دافعي الضرائب؛ فلا تشتري بأموالهم سوى أفضل الأنواع!
كنت قد استطعت دخول ميدان التحرير رغم الزحام الفظيع عصر الأمس، بعد أن لحقت مع أصدقاء بمسيرة مصطفى محمود قرب كوبري أكتوبر..وبعد جولة مرهقة بالميدان وسط الزحام، لمحت أصدقاء يجلسون لاحتساء الشاي في وسط الميدان، بالقرب من المجمع. ولما كانت قدماي لا تكادان تحملانني، استجبت فورا لدعوتهم إلى الجلوس، مع إغراء منظر أكواب الشاي في أيديهم. بين حين وآخر، تصل إلينا رائحة
الغاز من القصر العيني، فتدمع العيون ونسعل، أو نبتعد قليلا عن المكان، ثم نعود بعدما تخف الرائحة؛ نستكمل حديثنا..كانوا خمسة من الأصدقاء؛ زميلة وزوجها وشقيقتها وصديق لهم وزوجته عاشقة مصر رغم أصلها الأجنبي! كان زوج زميلتي يعاتب صديقه، على عودته بعد غربة دامت 25 عامًا، ويقول في يأس " يبدو أننا لن نشهد ثمرة ثورتنا قريبًا." صارحتهم أنني، بكل تأكيد، سأكون سعيدة إذا سمحت لي الأقدار أن أشهد بعيني انتصار الثورة. لكنني أشعر على أي حال بأن حظي أسعد من رفاق حلموا معنا بالثورة، وآمنوا بحتمية انتصارها،
وأمضوا حياتهم يعملون من أجلها ويدفعون الثمن، لكن العمر لم يمهلهم كي يشهدوا بداية تحقيق الحلم على أيدي أبنائهم! وضحكت قائلة:"أشعر أنني كمن شاهد اللقطات الأولى من فيلم يعلم مسبقا أن نهايته سعيدة، لكن القصة تضم أحداثًا مؤلمة، كأن تختطف العروس وتغتصب، ويضرب العريس على رأسه فيفقد الذاكرة، وتستمر الحوادث المؤلمة، إلى أن يلتقي الحبيبان مرة أخرى، وتتوج قصتهما بالزواج السعيد وينعمان بالرفاء والبنين. ضحكوا من التشبيه! فأكدت أنني جادة، وأنني قلت لاصدقائي في أول أيام الثورة قبل عامين، أنني سأكون سعيدة لو مت الآن، فقد كنت ضمن من راهنوا على هذا الشعب، ولم يهتز إيمانهم به لحظة! وها هي الأحداث تثبت صحة رهاننا. وأوضحت أنني لن أحزن إذا ما لم يكن في العمر فسحة لمعايشة لحظة النصر النهائي؛ يكفيني أن يعبش أحفادي وطنًا حلمت لهم به..وأن حياتي لم تضع عبثا في هذا الحلم. قلت لهم أيضا أنني أؤمن أن الانتصار النهائي للثورة لن يتحقق إلا بوجود تنظيم ثوري قوي، يستطيع إدارة البلاد، تدعمه جماهير واعية، قادرة على أن تفرز قياداتها من بين صفوفها؛ ومن ثم، فكل من يعتقد أن تغيير النظام يمكن أن يتم في عدة أسابيع من التظاهر والاعتصام، حالم، أو على الأقل
ضعيف الخبرة، قليل المعرفة..وأن من يعرف المعنى الحقيقي للثورة عليه أن يتحلى بطول النفس، والاستعداد لخوض طريق ليس قصيرا من التعب والتضحيات. وأننا أطحنا بالمخلوع في 18 يوما، لكن نظامه لم يسقط بعد! هنا، توقف الكلام، وجاء الهول في صورة قنبلة غاز ألقيت علينا؛ قمنا نتخبط، ونسعل ونحن مغمضي الأعين.. نار حارقة، تبدأ من الأنف إلى الحلق حتى المعدة، لتصعد جمرتين في العينين، لا تستطيع معهما أن تفتح جفنيك.. و بعد لحظة ، اختفى صوت الأصدقاء، ولا أعرف كم من الوقت مضى وأنا أتخبط بين الزحام؛ إلى أن امتدت ذراعا حانية تضم رأسي لتلبسني "كمامة أنف" استطعت بعدها أن أفتح جفني قليلا لأرى فتى لم يصل إلى العشرين من عمره ملثما ببلوفر، قلت له "بتاعتك؟" وعندما رد بالإيجاب، حاولت أن أخلعها لأعطيها له، فثبتها على أنفي قائلا أن "البلوفر يكفيه"! وسحبني من يدي، ولم يتركني إلا بعد أن ابتعدنا عن المكان. واصلت سيري وأنا أتأمل، كم دفعت حكومتنا السنية في شراء هذا الغاز لتقتل مواطنيها، وكم دفعت في شراء مركبات الشرطة المجهزة على أحدث طراز، وأدوات القمع المتطورة لتسكت أصوات الغاضبين. وقارنت ذلك، بما كان مطلوبا لإصلاح قطارات دهست أجساد أطفال وشباب، أو لتحسين ظروف علاج، مرضى يغادرون دنيانا لأن أسرهم لا تملك ثمن الدواء، أو شراء مقاعد مدرسية يجلس عليها أطفال يمضون يومهم جلوسا على الأرض في المدارس الحكومية وغيرها! تذكرت قبل 36 عاما، عندما كنت في سجن القلعة مع اثنتين من زميلاتي المقبوض عليهن على خلفية انتفاضة يناير الشعبية. ولاحظت أن ضابطا معينا كان يمر، بعد كل تحقيق، في فترة الحبس الانفرادي الأولى، ليسألني عن الأحوال بابتسامة لزجة، أدركت منها أن مهمته تقييم الحالة المعنوية بعد كل تحقيق. واختفى هذا الضابط بعد انتهاء التحقيقات، وترحيلنا إلى سجن القناطر للنساء. ثم عدنا إلى القلعة أثناء الامتحانات الجامعية لتكون مهمة نقلنا إلى كلياتنا أسهل. وفي هذه المرة لم يكن الحبس انفراديا، ولم تكن أبواب الزنانزين مغلقة، وكان مسموحا لنا
بالمذاكرة في فناء السجن. ثم صدر قرار الاتهام في القضية، وكنا ثلاثتنا ممن شملهم القرار؛ وإذا بهذا الضابط يظهر أمامنا فجأة ليسألنا عن الأحوال.. فقلت له "تمام.. زي الفل! بابا من دافعي الضرايب اللي بتبنوا بيها السجون.. ومن حق كل مواطن في البلد انه يتسجن بفلوس أبوه"! أشاح بوجهه غير مستملح النكتة، ويبدو أنه كان يتوقع أن يرى في العيون خوفا.. تذكرت يومها كلمات أحمد فؤاد نجم :"كان مناه يلمح علامة خوف بسيطة.. طب حييجي الخوف منين ابن العبيطة.. هو مين فينا الجبان.. واللا مين فينا اللي خان"..قلت لنفسي ضاحكة، وأنا أحاول الابتعاد عن مرمى قنابل الغاز" أنا الآن أدفع الضرائب التي يشترون بها الغاز، ومن حقي أن أستنشقه!".. وقال لي صديق على الفيس بوك"الجماعة مش حياكلوا حقنا. لو فضل في فلوسنا باقي حيدونا بيه خرطوش أو رصاص حي".. بفلوسنا.. ولكن إلى حين.
وقديما قالوا "دولة الظلم ساعة".. هانت، باقي دقائق.