الأحزاب الكبيرة عقدت مؤتمرها الأخير ورفعت الشعارات التي يرفعها «البرادعي» حتي يبدو أنه لم يأت بجديد وأن الأحزاب القائمة بها ما يكفي ويزيد الجمعية الوطنية للتغيير فى أول اجتماع لها بمنزل البرادعى عقب عودته لمصر أدي تجاهل الدكتور «البرادعي» للأحزاب السياسية القائمة حين وضع تصوراته الأولية حول متطلبات الإصلاح السياسي العاجلة إلي إثارة حفيظة تلك الأحزاب، ومن بينها الحزب الوطني الذي انطلق رجاله الممسكون بناصية الإعلام المرئي والمسموع، وبعض من زملائه السابقين، لمحاولة النيل من قدر الرجل بوسائل تختلف في درجة التوائها ومدي صراحتها، خاصة أن مسيرته وإنجازاته تستعصي علي محاولات الإساءة والتشويه التي لم تنقطع منذ إعلانه الاهتمام بالشأن المصري الداخلي، وتوجهه للتعامل مع هذا الشأن بوعي وتجرد وصراحة، أما الأحزاب السياسية الأخري فقد عقد له بعضها، وهي الأقل شأناً، محاكمة طعنت في نياته وقدراته ودوافعه، بينما قامت الأحزاب الأعلي شأناً نسبياً بعقد مؤتمر يرفع ذات شعارات «البرادعي»، ويتبني أهدافاً كتلك التي يدعو إلي تحقيقها، وبذا يبدو كمن لم يأت بجديد، وأن في الأحزاب القائمة وقياداتها ما يكفي ويزيد، إلا أن ما فاتهم أن موقف «البرادعي» قد كشف عن ضعف المصداقية البنيوي الذي تعانيه هذه الأحزاب والناتج عن اشتراط موافقة النظام، ممثلاً في لجنة أحزابه علي قيامها، وأن شرعية ما تقوم به من أعمال أو تدعو إليه من مواقف تكون متفقة مع أهداف ذلك النظام البعيدة الذي يفترض أنها تعارضه، فجاءت تلك الأحزاب «تفصيل» ووفقاً للمقاسات التي تتناسب وسعة صدر النظام وتصوره للدور المنوط بها القيام به، والذي كان أوضح تجلياته انضمام أحد أبرز أقطاب حزب الوفد إلي إحدي حملات الحزب الوطني التي تسعي لإضفاء المصداقية علي إصلاحه السياسي، وقد نشرت جريدة «الدستور» في حينه صورة هذا القطب علي منصة واحدة مع الدكتورين «عبدالمنعم سعيد» و«حسام البدراوي» من لجنة سياسات الحزب الحاكم في أحد اللقاءات مع مراكز صنع القرار الأمريكي، أما المعارضة الوطنية التي تنشد الحرية والعدالة لهذا الشعب، فبئس ما تلقي من مصير.. وسيظل عالقاً بذاكرة التاريخ رد فعل النظام العنيف عندما طالب حزب الغد بأن يكون رئيس الحزب الوطني ممثلاً لحزبه في اجتماعات الحوار الذي دعا إليه حزبه أسوة بالأحزاب الأخري، لما في هذا الطلب من تجاوز وندية لا يقبل بها النظام الحاكم، وسيظل عالقاً بذاكرة التاريخ أيضاً احتفاء الجماهير غير المسبوق بما وجهه رئيس هذا الحزب من تنديد بممارسات النظام وسياساته، وهو ما كان يدحض ادعاءات وسائل إعلامه ومسئوليه حول شعبيته الكاسحة. لقد توالت السنوات منذ صدور قانون الأحزاب وبداية ممارسة نشاطاتها، وهي لا تزال حبيسة جدران مقارها، وقانون الطوارئ يحلق فوق رؤوسها، وإذا ما اختلف أعضاؤها، وهو أمر طبيعي في جميع التجمعات البشرية، فليس أمام المختلفين سوي الاقتتال، فمن يخرج عن عباءة الحزب لا يجد بديلاً عنها في حزب آخر قد لا توافق لجنة الأحزاب منحه رخصة ممارسة نشاطه، أسوة بالمحال العامة والملاهي، وبذا لا تجد الخلافات داخل الأحزاب لها متنفساً سوي الانفجار داخلياً، ذلك بالإضافة إلي التدخلات الأمنية التي قامت بدور مهم في تفجير الأحزاب من الداخل.. وبعد هذا تخرج علينا القيادات الشابة في الحزب الوطني بادعاءات زائفة بأن الهدف من تضييق فرص المستقلين في الترشح لرئاسة الجمهورية هو دعم الأحزاب، وليس هذا الادعاء سوي محاولة فاشلة لإخفاء ملمح مهم من ملامح الممارسة السياسية في مصر، وربما في العالم الثالث، وهو دور الزعامة الكاريزمية في القدرة علي استقطاب الجماهير، وليس البرامج السياسية أو القدرة علي ترتيب الأولويات في إطار المصلحة الوطنية، فكان هذا الاهتمام البارز من جانب رموز النظام بقطع الطريق علي من يحظي من أبناء هذا الوطن بإعجاب جماهيري عريض قد يشكل إذا ما أتيحت له الفرصة وفي التوقيت المناسب تهديداً لتولي «بعد عمر طويل» من يكفل استمرارية النظام والحفاظ علي توازنات المصالح القائمة، وهو ما تشكل المادة «76» بصياغتها المطولة الشاذة فقهياً ضمانة له. إن رفض «البرادعي» في التقدير الانضمام لأحد الأحزاب القائمة رغم تسابقها لدعوته ليس تعالياً، وإنما إدراك وتحسب للملابسات السابق ذكرها، التي تحيط بإقامة الأحزاب وممارسة نشاطها، وربما كان ذلك هو ما دفعه للتصريح في أحد البرامج الحوارية بأنه «يشعر بالمهانة» إزاء اضطراره التقدم بطلب إقامة حزب من مسئول بالحزب الوطني الذي يري فيه أحد أبرز أسباب القصور الذي تعانيه مصر الآن، وهو قول موجع بلاشك في هذه المرحلة، فإذا كان هذا الإجراء مقبولاً في بداية ما سمي عملية الإصلاح السياسي في منتصف هذا العقد، فإن التقدم بمثل هذا الطلب بعد أن تكشفت النيات الحقيقية للنظام، وفي مقدمتها مصادرة حق الشعب في تداول السلطة بتولية من يصلح، فإن الحديث عن الديمقراطية والإصلاح يصبح لغواً فارغاً، بل محاولة لسحب القوي الشعبية الناشطة بعيداً عن الطريق الذي يؤدي إلي التخلص من القيود التي تعوق حركتها نحو مستقبل أفضل، بل يعتبر خدمة لهذا النظام ومشاركة في خداع الرأي العام داخلياً وخارجياً. إن ترفع «البرادعي» عن الخوض في مستنقع الحياة الحزبية يدعو إلي التقدير وليس إلي الاستهجان بعد انقضاء سنوات عقيمة من عمر هذه التجربة الإصلاحية الافتراضي، والتي لا يستمرئها إلا من له مصلحة في استمرارها. إن خطورة الأوضاع الحالية تتمثل في الاستسلام للفشل كقدر محتوم، وما يؤدي إليه هذا الاستسلام من انكفاء علي الذات للبحث عن لقمة العيش، أو التطلع إلي ثواب آخرة يزينه له من لا يختلف كثيراً عمن قمع إرادته واستباح ثروات الوطن. إن قيام بعض أحزاب المعارضة بعقد مؤتمرها مؤخراً في قاعة بأحد الفنادق الكبري وفي حضور نخبة من المهتمين بالسياسة تحت أضواء وعدسات أجهزة الإعلام لهو خير دليل علي عزلة هذه الأحزاب، وإذا كانت لا تلام علي هذه العزلة، إلا أنها تلام علي أداء هذا العرض العقيم الذي لا يستفيد منه سوي النظام، ولا يأبه بإقامته سوي القائمين عليه. لقد تعاملت تلك الأحزاب مع عدم استجابة «البرادعي» لدعواتهم بسطحية مفرطة، إذ اعتبرت عدم استجابته نوعاً من التعالي أو الغرور علي حد قول أحد زعاماتها «إحنا مش هنجري وراه»، متجاهلين الظروف الموضوعية التي تمر بها الأحزاب السابق ذكرها، ومتجاهلين أيضاً أن هذه المرحلة لا مجال فيها لتنافس حزبي من أجل كسب الأنصار والمؤيدين، وإنما مرحلة نضال من أجل الحق والحرية التي يمكن بعد نيلها أن يتنافس المتنافسون.