ليس من حق الآخرين التحدث عن الإسكندرية في الشتاء، فقط باسم الإبداع والفن، فهؤلاء الذين يجلسون في كافيتريا فاخرة تطل على كورنيش البحر، يتابعون تساقط الأمطار من خلف الزجاج وهم يرتشفون مشروبا ساخنا –بالفوم- ويعتصرون عقولهم في تأليف كتاب أو عمل فني أثناء تواجدهم يومين أو حتى أسبوع بالمدينة الساحلية، لا يعرفون شيئا عن هذه المحافظة، لا يعرفون سوى المشهد الذي أرادوه منها. ولكن في الحقيقة، الإسكندرية شتاءً أصبحت حملا ثقيلا على أهلها، خاصة في شهر يناير وفي مواسم النوات، المواطن السكندري وحده هو الذي يعرف معنى كلمة "الفيضة الكبرى" و"نوة عيد الميلاد"، يعرف ماذا يحدث عندما تستمر الأمطار على مدار يومين متواصلين لتتكفل بغلق أنفاق وكباري بسبب المياه، مما يدفع بتحويل السكة إلى اتجاه عكسي وجعل بعض الشوارع "رايح جاي" للسيارات بعد أن كانت اتجاها واحدا.
الإسكندرية في الشتاء هي تلك الحالة من "اللا صرف" التي تشهدها نصف شوارع المحافظة، بعضها يكون بسبب ضعف شبكات الصرف أو انسدادها أو عدم تواجدها من الأصل كما في المناطق الشعبية، ولذا فلا تتعجب عندما تتوقف بسيارتك فجأة في طريق قطعه الأهالي كي يحتجوا ويضغطوا على المحافظة؛ مطالبين بتحسين شبكات الصرف في مناطقهم بعدما دخلت مياه الأمطار حتى غرف النوم، وبعدما فشلت 131 محطة صرف في شفط المياه ونقلها للمصارف.
شتاء الإسكندرية يعني غلق الموانئ وتوقف حركات الملاحة، يعين أجازات جماعية للعاملين بالشركات والهيئات، إما خوفا من المرض أو من الطريق إلى العمل الذي يتطلب الوصول إليه ضعف مدته الأصلية وربما أكثر، يعني إلغاء مشاوير وتوقف مصالح وتأجيل زيارات لحين توقف المطر أو جفاف الأرض.
رياح يناير بالإسكندرية هي تلك الرياح الكفيلة بجعلك تطير من على كورنيش البحر أو تتكفل بإصابتك بنزلة شعبية حادة، وهي ذاتها المتسببة في سقوط عمود إنارة على سيارتك المركونة بإحدى الشوارع الجانبية الضيقة المقابلة للبحر والتي تكفي قوة الرياح بها لكسر الحديد نفسه، وهي تلك الرياح التي تسببت في كسر جذع شجرة عملاقة أمام حديقة المنتزة مما تسبب فى كسر الشجرة للسور الرابط بين المعمورة والمنتزة في سابقة لم تحدث منذ سنوات.
الإسكندرية "تشل وتغرق" دون أي مبالغة في التعبير، ويجب الشهادة بأن هناك عدة عوامل ساهمت في رسم هذا المشهد "البائس" الذي تعيشه عروس البحر المتوسط الآن، بداية من العوامل الطبيعية إلى إهمال البنية التحتية للمحافظة على مدار الحكومات المتعاقبة –والت زادت بعد الثورة- إلى أنانية الأفراد وعدم اهتمام كل فرد إلا بمصلحته الشخصية فقط، مما أدى بالمدينة إلى الغرق في مياه الأمطار والصرف وتهديد البنية التحتية وأساسات المباني.
وعلى كل من يتحدث عن روعة الإسكندرية شتاءً، أن يجرب الحياة الفدائية التي يعيشها المواطن السكندري، ولو خلال شهر واحد من 20 يناير إلى 20 فبراير، وبعدها دعنا نسمعه يتحدث عن نسيم البحر، ولسعة البرد الخفيفة، وقطرات الندى في الساعات الأولى من الصباح، بعد أن يكون قد ذاق قرصته الحقيقية الكفيلة بحبس أسرة كاملة في المنزل لأيام متواصلة، وجرب بنفسه ممارسة رياضة القفز مسافات طويلة محاولاً العبور من الشارع إلى الرصيف دون أن تغرق قدمه فى المياه، أو بعد أن يكون قد عانى من حالة الانقطاع عن العالم بسبب ما تسببه الأمطار المتواصلة من قطع لشبكة الانترنت وأحيانا الكهرباء وفي جميع الحالات في تشويش إرسال الأقمار الصناعية، وبعدها فليتحدث عن شتاء الإسكندرية.