أعتقد أن قلبي كان موشكًا على التوقف.. هناك لحظة مخيفة بين التحديق في ذلك الوجه يحملق فيك، وبين إدراك الحقيقة المخيفة.. إنه يراك.. الآن أفهم سر توتر الزوجة وشحوبها.. أفهم لماذا ذهبت نورا عند جدتها. هل رأت الزوجة هذا المشهد لا أظن وإلا ما ظلت حية.. على الأرجح هي خمنت أو شعرت بشيء ما خطأ. لكن لا تقل لي إنها رأت زوجها يمشي على الجدران وقبلت ذلك! رأيت ذلك الشيء الذي يمشي على السقف ينحدر نحوي.. يهبط الجدار بسرعة خاطفة مما تميز الزواحف.. سرعة خاطفة تقطعها وقفات متحفزة حذرة. صمت تام يجعلك تشعر أن أذنك مختلة. فجأة وجدت يدي تطبق على سكين الطعام الضخمة تلك.. شعرت بأمان شديد وانا أعتصرها.. هرعت إلى الباب فخرجت، ثم أغلقته خلفي في قوة وركضت إلى الصالة.. هنا رأيت مقبض الباب ينفتح. وفي اللحظة التالية كان شاكر يركض على قدميه متجهًا نحوي. لقد تبدل وجهه فعلاً.. لم يعد وجه المهندس الظريف البارع صديقي القديم. هذا وجه.. وجه وَزَغَة. سقطت على الأرض متعثرًا.. من الحمار الذي وضع هذا البساط هنا؟ تمسكت بالشرشف فجذبت مزهرية كانت فوقه لتسقط وتتهشم.. ثم وجدت نفسي راقدًا وقد جثم فوقي شاكر يحملق في وجهي بعينين زجاجيتين.. لسانه العملاق يتدلى نحو وجهي. كان هلعي لا يوصف.. لا أعتقد أنني حركت أنملة ولا أطلقت أي صوت. فقط رفعت السكين لأعلى.. نحو قلبه.. وشعرت بالنصل يخترق شيئًا. ثم أدركت أن الأمر انتهى.. إنه جسد خال من الحياة يجثم فوق صدري... نهضت بصعوبة وأنا أحاول استيعاب هذه الحقيقة المروعة.. لقد مات شاكر. رأيت شفتيه الجافتين تحاولان نطق شيء. في النهاية استطاع أن يقول بصوت كالفحيح: اقتل دكتور........ أنطونيان. ثم تجمد وجهه على هذا التعبير وهذه النظرة.. كانت لدي في طفولتي دمية تفتح جفنيها وفمها.. وعندما نفدت الحجارة الجافة ظل وجهها في وضع واحد متصلب. تذكرت هذا المشهد الآن. سمعت صرخة حادة رفيعة من خلفي. لم يكن من داع للنظر لأعرف أنها مها الزوجة.. لقد قتل زوجها أمام عينيها، ولسوف يكون من الصعب ان أشرح أنه من فعل ذلك.. هناك دعابة قديمة عن رجل الكويكرز (وهو مذهب ديني يميل للسلام) الذي وجد لصًا في بيته فأخرج المسدس وصوبه عليه وقال: عذرًا يا أخي.. لكنك تقف بالضبط في المكان الذي سأطلق فيه النار! تذكرت هذه القصة الضاحكة وأنا في موقف مختلف تمامًا.. كم من الوقت يلزم رجال الشرطة حتى يجدوني؟ عندها فكرت فيك يا محمود.. سوف أتوارى عندك ولكن بعد ما أعرف الإجابة... هرعت أركض نازلاً في الدرج.. ركضت في الشارع وأنا لا أفكر إلا في شيء واحد.. رامز.. ماذا دهاه؟
*** كان باب الشقة مواربًا... دققت الجرس عدة مرات فلم يرد أحد. طرقت الباب مرارًا.. كان هناك صوت عزف.. عزف رقيق على آلة وترية. عزف لا يقدر عليه سوى رامز. دخلت إلى الشقة في حذر كأنني لص. شقة فاخرة كما تعرف، ونورهان قد جعلت منها جنة.. لكن هناك شيئًا خطأ. رحت أبحث بين الحجرات عن رامز أو عن نورهان فلم اجد أحدًا.. أين الجميع؟ رامز يتمتع بأذنين حساستين جدًا.. بالواقع هو يسمع "دبّة النملة".. لهذا لا بد أنه سمع خطواتي. من المعتاد أن أقابل نورهان في الصالة.. هي لا تكف عن العمل كالنحلة. أين الجميع؟ أخيرًا وجدت غرفة المكتب.. كانت مظلمة تمامًا والباب مواربًا.. فتحت الباب بحذر وانا أنادي رامزًا.. شعرت بشكل ما أنه موجود.. لاحظ أنه لا يبصر، ويمكنه التواجد في الظلام بلا مشاكل. قلت بصوت عال: رامز... أرجو أن تكون بخير.. لا رد.. رامز.. ذلك الطبيب الأرمني.. لقد اكتشفت أنه يستعمل جينات حيوانية.. جينات يحقن بها المرضى ليستردوا حواسهم... النتيجة هي أن المريض يتحول لحيوان آخر.. لا رد.. رامز.. هل تسمعني؟ ثم سمعت صوتًا غريبًا... بدأت عيناي تعتادان الظلام وأدركت أنه لا يوجد أحد.. هذا مكتب ومكتبة وأريكة.. لا أحد هنا.. لكن.. لماذا نظرت لأعلى؟ لقد صارت عادة لدي أن أنظر لأعلى... لقد كان الحافز قويًا وثمة شيء يعبث في مؤخرة رأسي. نظرت في هلع وليتني ما نظرت... أنت تعرف ما رأيت يا محمود.. وتفهم الأمر.. كائن كفيف لكنه يسمع كل شيء.. الإجابة سهلة جدًا: الوطواط... بشكل ما كان يتدلى مقلوبًا من السقف متعلقًا بركبتيه إلى دعامة عرضية قام بتثبيتها هناك.. مغمض العينين يزوم نوعًا ويعزف على كمان صغير.. وفي لحظة وثب في الهواء ليسقط باتجاهي.. هذه المرة لم أستطع الفرار ولم أكن مسلحًا، وشعرت به ينشب أسنانه الحادة في عنقي.. صرخت طالبًا أن يتريث... لكنه واصل مهمته.. ترى لماذا اختار الأرمني جينات وطواط مصاص للدماء؟ لم تطل العملية طويلاً.. لقد تناول رامز وجبته.. وشعرت أن بوسعي أن أنهض. أما هو فقد قام واتجه ليسترخي على الأريكة منهكًا راضيًا.. أنا ما زلت حيًا.. دوار قاتل يعصف بي وقدماي واهنتان لكني حي.. اتجهت للباب بلا كلمة وبقعة سوداء كبيرة في مركز البصر.. موشك على فقدان الوعي فعلاً. ترى أين نورهان؟ هل فتك بها؟ هل هربت؟ على الدرج فقدت وعيي لبضع دقائق. نهضت في النهاية واستطعت أن أخرج للشارع.. واستوقفت سيارة أجرة..
انفردت بالطبيب وقلت له إنه دمر مستقبلنا جميعا (رسوم: فواز) ***
الآن أنا في دارك يا محمود. لا أحد يعرف أنني هنا... أنت صحفي ويهمك أن تكتب تجربتي كاملة لكني أرفض ببساطة أن تنشر الجزء التالي. "سوف أظل هنا أطول فترة ممكنة... هات قرصًا من الديازيبام مع بعض الماء وكف عن الرجفة. أنت تعرف أنني اتجهت إلى دكتور أنطونيان.. تعرف انني ابتعت سكينًا أخفيته في ثيابي وأنا في الطريق له.. لقد قتلت صديقًا منذ ساعات فلا بأس من قتل وغد أريح المجتمع منه. عندما انفردت بالطبيب قلت له إنه دمر مستقبلنا جميعًا.. بل إن هناك قتيلاً وقاتلاً في الموضوع.. الشرطة تبحث عني في كل مكان بلا شك ولا أحد يقدر على الفرار من الشرطة طويلاً".. وهنا أخرجت السكين... حاولت طعنه لكني كنت واهنًا بطيء الحركة بعد ما فقدت من دم.. وكان الوغد سريع الحركة برغم سنه، وعندما سقطت أرضًا تكأكأ علي ثلاثة من الممرضين وقيدوني للأرض.. نهض الرجل إلى غرفة جانبية.. بعد قليل عاد حاملاً محقنًا.. وشمر ذراعي وهو يقول في وقار: أنت جلبت لي مريضين لهذا أنا مدين لك بخدمة.. الشرطة تبحث عنك، لهذا يجب أن أساعدك على الاختباء.. على التواري.. على الفرار بسرعة وخفة.. قلت في وهن: بم تحقنني؟ قال وهو يغرس الإبرة: جرعة مضاعفة.. سوف يبدأ العمل بعد ساعات.. لن تحتاج لجلسات أخرى ولا أعرف كيف وجدت نفسي في الشارع أبحث عن سيارة أجرة أخرى.. الآن يا محمود أنت تعرف قصتي بالكامل. ربما تأخذك الحمية فتذهب لتقبض على هذا الرجل أو تبلغ عنه الشرطة.. بالنسبة لي قد انتهى الأمر.. لقد قدم لي الرجل خدمة عظيمة فعلاً.. يمكنك بسهولة أن تشم الرائحة.. يمكنك أن ترى الحراشف على يدي.. يمكنك أن ترى شكل فكي.. هكذا صار بوسعي أن أفر وأن أتوارى في أي مكان وأن أختبئ في البالوعات.. لن يجدني رجال الشرطة أبدًا.. لكن كل ما أرجوه منك هو أن تسممني وتتخلص من جثتي إذا بلغ التحول مبلغًا.. هات جرعة أخرى من الماء وقطعة خبز.. إن حياة الصرصور قد تكون مثيرة فعلاً.
تمت
الحلقات السابقة: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. دبّة النملة (1) د. أحمد خالد توفيق يكتب.. دبّة النملة (2) د. أحمد خالد توفيق يكتب.. دبّة النملة (3) د. أحمد خالد توفيق يكتب.. دبّة النملة (4)