لا أجد مبرراً واحداً لسلوكيات كثير من الناس الذين يتعاملون مع شوارع مصر على أنها بيت بلا حُرمة ولا راجل يشكمها، وقد حوّلوا هؤلاء الأشخاص مقولة: "وما الدنيا إلا مسرح كبير" إلى: "وما مصر إلا مراحيض كبيرة..."! وهنا يحضرني قصيدة من قصائد النابغة "بيرم التونسي" والتي يستهلها ب"حاتجن يا ناس يا اخوانّا .. يا ريتني ما رحت لندن ولا باريس.. دي بلاد تمدين ونظافة ولطافة وحاجة تغيظ". إلى أن يقول: "ولا شفت جدع متعافي وحافي وماشي بياكل خس". ثم يصوّر الشاب اللي ماسك خلة "عود القصب" ونازل مص، ثم يصف الأفندي الماسك بقرطاس اللب ونازل يا قزقزة.. وطبعاً بيُبصق القشر في الشارع..
تخيلوا معي.. العبقري بيرم التونسي ينتقد هؤلاء منذ أكثر من 65 سنة ويرجعها إلى الجهل.. الله يرحمك يا عم بيرم ويرحم الجهل الذي كان على أيامك فهو يساوي الآن رسالة دكتوراه..
نحن الآن رغم وجود جامعة أهلية في كل محافظة وجامعة خاصة في كل شارع تقريباً، وكلنا أسامينا تتقدّم بلقب المهندس أو الدكتور هذا غير الباشا والمعالي وأضعف الإيمان يكون الأستاذ، ورغم أن شهادة البكالوريوس أصبحت مثل بطاقة الرقم القومي فرض على كل مواطن، إلا أن الجهل زاد واستشرى، ولا أعرف كيف!!.. وأصبح ينخر في جسدنا بلا هوادة!!
وهنا أخص الجهل الحضاري أو الجهل بالسلوكيات.. تخيّلوا أننا مازلنا نبصق ونمخط في الشارع -عيني عينك كده- حاجة تقرف والله، كم مرة في اليوم الواحد تكاد تُصيبك قذيفة من تلك القذائف لكنها تُخطئك في آخر لحظة والحمد لله.. للأسف الجهل السلوكي -إن جاز هذا التعبير- يتفشّى بين مختلف الطبقات، فكثيراً ما نرى سيارة من ذوات الأربع.. الدفع الرباعي مثلاً.. ومن يركبها يتزيّن بالوجاهة والهيبة وتجده يُخرج يده من الشباك مُلقياً بأكياس الساندوتشات ببقاياها أو عُقب سيجارته أو فوارغ الكانزي وأحياناً قوالح الذرة.. ربما من ال 128..
تعال نسترجع بعض المناظر بالنوادي الاجتماعية ومعظمها للصفوة من الناس.. هنا ترى كم الخراب الذي يُصيب المكان المجتمِع به أسرة ما أو مجموعة أصدقاء!! يا الله على قشر اللب والسوداني وبقايا الأكل.. معركة حربية ضارية دائماً بيننا وبين النظافة!!
يجرُنا الكلام إلى الأبشع والأفظع والذي انتقل من سائقي الميكروباص -أس الفساد- إلى سائقي التاكسي ومنهم إلى بهَوات الملاكي، كأنه فيروس إنفلونزا الحمير.. فتجد السائق يقف بسيارته وسط الشارع والمجتمع والناس، وبمجرد أن يفتح باب السيارة ويعطي ظهره للطريق أصبحت السيارة مراحيض عامة -آسف فالمراحيض خاصة إنما الفُرجة عامة.
طبعاً هؤلاء غير فناني أسفل الكباري وجميع الأسوار.. هواة الرسم بالبول.. إف.. إف.. ريحتنا طلعت والله وبقت حاجة تقرف..
إنها حقاً إنفلونزا الحمير التي هي أخطر من إنفلونزا الطيور والخنازير أيضاً؛ لأن حامل فيروس إنفلونزا الحمير لا يموت ولا حتى يرقد في الفراش، لكنه يظل يبرطع في الشوارع راوياً تراب مصر الغالي ليزرع التخلف والجهل وقلة الأدب..
أعلم أن الكثير يُحمّل الحكومة المسئولية؛ لقلة دورات المياه في الشوارع، وأنا معكم رغم أنها بدأت تُنشئ بعض دورات المياه أكثر مما سبق..
لكني لا أعفي الناس أبداً.. فأين الحياء الذي هو شُعبة من شُعب الأيمان؟!! وكيف مع كل ما نحياه من تقدّم وتحضّر وتعليم -المفروض يعني- ونأتي بتلك الأعمال البغيضة؟!!
الله يرحم زمان عندما كان البسطاء يُحاولون تقليد المتعلمين في أسلوبهم وكلامهم ونظافتهم.. اليوم انقلبت الآية والمتعلمون أصبحوا يُقلّدون البسطاء، تأمّل شوارع المهندسين ومصر الجديدة ومدينة نصر -مجرد أمثلة لمناطق يُفترض فيها الرُقي لارتفاع المستوى المادي- تجد الأكياس وأعقاب السجائر وعلب الكانز وأيضاً أكياس القمامة و.... و....
ناهيك عن الألفاظ المنتقاة من نخبة ممتازة من أجود أنواع الشتائم والبذاءات، لم نكن نسمع هذا من أي متعلّم مهما كان مستواه المادي.. أما الآن نخشى حتى النقاش مع أولاد الذوات ذوات الأربع -الأربع ألسن طبعاً.