ما زلنا في المعسكر التدريبي الرباني الذي تُرفَع فيه الأعمال إلى الله.. شهر شعبان الذي اتفقنا أن نتدرّب فيه على العبادات والطاعات التي نريد لأنفسنا أن نستمرّ عليها في رمضان وبعد رمضان. وبعد أن بدأنا أولى خطواتنا العملية بأن وضعنا لأنفسنا جدولا صغيرا علّقناه في مكان ظاهر، وأمكننا أن نزِن عليه أعمالنا التي نستهدف المداومة عليها، وكلما نفّذنا عملا وضعنا علامة "صح"، ليُمكننا بسهولة حساب نسبة ال"صح" في حياتنا، بما يرينا نقاط الخلل وأماكن الضعف.. فنُقوّيها ونتلافاها، وبعد أن تحدّثنا عن ضابط اليوم، صلاة الفجر التي يُمكننا الحفاظ عليها من ترتيب مفردات يومنا بطريقة جيّدة، ومنظّمة، جاء الوقت لننتقل للنقطة التالية: موضوع اليوم تحدٍّ كبير لكثير منّا، منّا مَن يهمّ بفعله ثمّ ما يلبث أن يضعف ويتهاون، ومنّا مَن يريد لكن الوقت لا يسعفه، ومنّا مَن يبدأ ويستمرّ، ولكنه لا يشعر بلذة لما يفعل، ومنّا مَن تعوقه ظروف العمل أو المعوقات الطبيعية.. نحن نتحدّث عن ورد يومي ثابت من القرآن. وقبل أن أبدأ معكم الرحلة مع الورد القرآني، أحكي لكم قصة سيدة تبلغ الآن مِن العمر أكثر من ثمانين عاما، علّمت نفسها القراءة خصيصا من أجل قراءة القرآن والاستمتاع بكلام الله والمعاني الربانية، وحلاوة نطق كلام أنزله الله على نبيّه بوساطة سيد الملائكة. لهذه الجدة ورد ثابت من القرآن الكريم وهو جزء تقرؤه يوميا.. لا كسل ولا انشغال ولا نسيان، رغم ظروف صحتها المعتلة ورغم ما قد يُصيب عينيها من أمراض الشيخوخة ورغم ما قد يحيط بها من مناسبات اجتماعية وزيارات عائلية وتردّد على عيادات الأطباء؛ فإنها لا تفرّط في جزئها اليومي وصلتها بكتاب الله تحت أي ظرف. تابعتها وراقبت حفاظها على ذلك، ومِن ثمّ اكتملت عندي خطوات الحفاظ على الورد القرآني، وها أنا أنقلها إليك: 1- النية.. لا بد أن تكون في قراراتك الحياتية وخصوصا العبادية منها، صاحب نية حاضرة لفعل الخير؛ فالنيّة هي الفيصل بين العمل لله والعمل العادي للحياة، وللاستفادة من ثواب الله وفعل الشيء للاستمتاع الشخصي أو الفائدة الدنيوية.. النية الصالحة شرط أساسي في قبول العمل من عدمه فلا تتجاهلها، واسمح لنا أن نذكّرك بها في كل خطوة جديدة. 2- العزم الصادق.. قد يبدو العزم مثل النية، ولكن العزم أقصد به القرار الذي لا يقبل التهاون، والاستعداد الحقيقي للحفاظ على ما قرّرت أن تحافظ عليه.. والصبر على تبعات ذلك القرار من نتائج مقابل أن تحافظ على ما تنوي أن تفعله؛ لأن الشيطان يا صديقي سيدخل لك مِن كل مدخل ممكن من أجل إثنائك عن العمل الصالح.. سيجذبك بالعمل وبالتعب وبالمشاغل الأخرى.. أتصدّق أن الشيطان قد يشغلك عن العبادة بعبادة أخرى أقل في الأجر؟؟ لا.. لا بد أن يكون قرارك قويا وعزمك شديدا ويقينك حاضرا بأنك ستقبل على هذا العمل مهما كانت شواغلك ولن يأخذك منه شيء. 3- إدراك المستطاع؛ بمعنى أن تدرك ما يمكننك فعله على الحقيقة؛ بحيث لا تكلف نفسك ما لا تُطيق، فتعجز عن فعله وفيتسبّب لك في حالة من الكسل أو الانهزام المتواصل، وأيضا لا تختَر ما هو أقل بكثير من قدرتك؛ فيتولّد لديك وقت فراغ طويل يستغلّه الشيطان أو نفسك الأمّارة بالسوء، إلا من رحم ربي. احسب وقتك ووازن بين أمور حياتك، وقدّر لنفسك وردا يوميا يكون على قدر فراغك، وابدأ فيه فإذا استطعت إنهاءه؛ فاستمرّ عليه وإن عجزت تماما؛ فحاول تخفيفه المهم أن تدرك ما يحيط بك من شواغل، وتحدّد على أساسها ما تقدّر على المداومة عليه. 4- أن تحدّد وقتا محدّدا ومعروفا لقراءة وردك القرآني؛ نصيحة مهمة لا تتركها حسب الظروف؛ لأن الظروف ستأخذك بالتحديد إلى أي شيء آخر.. من المهم أن تحدّد الوقت، ويا حبذا لو استطعت تحديد المكان الذي ستقرأ فيه؛ لأن كل ذلك بعد فترة سيتحوّل إلى طقس يومي (مع مراعاة النية) يعرفه من حولك ويعينونك عليه، وستشعر بحالة من الألفة والارتباط به، وسيزداد ارتباطك به يوما بعد يوم. البعض يحدّد الوقت بعد صلاة من الصلوات تكون متفرّغا بعدها مثل صلاة الصبح أو المغرب، والبعض يحدّد المكان بساعة في المسجد أو قبل البدء في المذاكرة أو قبل النوم. 5- من النقاط المهمة جدا التركيز في معاني ما تقرأ؛ لأن البعض أحيانا يحسب الموضوع حسبة عددية، وينسى أنه يقرأ كلام الله، الذي يحمل رسائله لقلوبنا، ويجب أن تشكّل معانيه وجداننا، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطوات صلاحنا والتحذير مما يضرّنا، القرآن هو منهاج المسلم، ولذا عليك أن تقرأ بتمعّن وفهم لما تقرأ، لذا أنصحك -وأنصح نفسي- بأن تقرأ من مصحف في هامشه معاني الآيات؛ لأن هذا يُضيء لك ما قد يصعب عليك فهمه من كلمات، وأن تركّز جيّدا ولو قلّت حصتك من حجم ما تقرأ؛ فالأهم هو تدبّر كلام الله وفهم معانيه لا كثرة الكمّ مع عدم الإدراك. 6- المشغول.. للمشغول جدا أو الذي يستطيع أن يستقطع وقتا محدّدا لقراءة القرآن رغم أهمية ذلك، ألا يحرم نفسه من الثواب، وأن يفعل ذلك مع النشاط المصاحب؛ حيث لدى كل منّا وقت يكون مرتبطا فيه بفعل شيء ما لكنه يملك فراغات كثيرة في أثناء أداء هذا الفعل، يمكن استغلال هذا الفراغ في قراءة القرآن، مثل مَن يسافر مسافة طويلة ولديه وقت فراغ في المواصلات، أو يراقب تحرّك آلة معينة ولكنه في هذه الأثناء يمكنه الإمساك بالمصحف وقراءة ورده، أو يقود السيارة مثلا، وهنا يمكنه الاستماع إلى ورده لخطورة انشغاله بالقراءة، مع إعطاء قدر من التركيز في الآيات وتدبّرها... وهكذا. صدّقني العبادة سهلة جدا إذا توفّرت النية والعزم، والله سبحانه لا يريد منّا أكثر مِن أن نقرّر أن تخطو إليه، ثم يقرّبنا هو برحمته وكرمه، ومَن يؤمن بالله يهدِ قلبه، ومن تشغله الطاعة سيعينه الله على إدراكها، ومن يهتمّ بقلبه يتغيّر واقعه؛ لأن الله ينظر إلى قلوبنا؛ فاحرص أخي المسلم على ما ينفعك وبادر بشحن قلبك قبل رمضان، حتى تثبت نفسك على ما تريد في رمضان فتستمر بإذن الله. اللهمّ بلّغنا رمضان وأجر رمضان آمين،،،