أنا في 17 من عمري عندي 3 إخوات ولكني أشعر أني في ال50، عشت طفولة رائعة في بدايتها ولكن نهايتها غير سعيدة، عندما بدأت خلافاتي مع أصدقائي والخلافات العائلية بين أهلي، والتي أثّرت عليّ كثيرا وغيّرت في شخصيتي المرحة وجعلتني شخصا أضعف، متشائما حزينا وأصبحت أحب الانطواء رغم أنني شخصية اجتماعية لأقصى درجة. ضعُف مستوايَ الدراسي ولكن ليس كثيرا، فأنا كنت أذاكر لأني أحب ذلك أما الآن وللأسف لا أحب المذاكرة على الإطلاق، أصبحت لا أريد أي شيء حتى أنني أعجز عن البكاء، أريد فقط الهدوء وأن أواظب على الصلاة. علاقتي بأهلي متوترة وأحاول قطع علاقتي بأصدقائي، وأحيانا أرتكب أخطاء في حق نفسي، كما أنني شخصية متناقضة ولا أظهر الضعف. دائما كنت أعطي للآخرين الأولوية ويأتون إليّ لحل مشاكلهم وإن كانوا غير أصدقاء لي، وكان ذلك يشعرني بالسعادة، وأنا الآن أحتاج إلى المساعدة ولكن لا يوجد من يساعدني، يكفيني ندما.. فلماذا أدفع ثمن لا مبالاة غيري وإهمال أبويّ في حقي؟!
Hager.tata
صدقت؛ أنت شخص متناقض، فحديثك يوحي بأنك شاب ولكن إيميلك إيميل فتاة! وعلى أي حال سأحدثك على أنك إنسان، وحتى تستطيع أن تدرك حقيقة ما يحدث معك، من المهم أن أوضح لك أمرا مهمّا، فنحن حين نولد يكون لنا احتياجات في غاية الأهمية، تُعرف علميا بالحاجات الأولية، هذه الحاجات لن يعطيها بقوة وصدق إلا الأبوين، وهي احتياجات كما ذكرت أساسية وكذلك متنوعة، منها: الحب غير المشروط، الأمان، الحنان، الاهتمام النفسي، بث الثقة في النفس، التقبّل.. إلخ. فحين يكون الأبوان على درجة جيدة من التفاهم والتناغم والوعي بتلك الاحتياجات، ينشأ الابن في حالة استقرار عاطفي، ونفسي، وعقلي كبير جدا، وتتحول تصرفاته إلى تصرفات سوية، فتكون علاقاته الاجتماعية مثلا علاقات طبيعية سوية بلا أزمات أو مشكلات متكررة، أو لها بُعد وجداني مؤلم، ولكن حين يحدث تقصير في إعطاء تلك الحاجات الأولية للطفل بسبب الجهل التربوي، أو الخلافات المستمرة بين الوالدين، أو غيره من الأسباب، ينشأ لدى الطفل مشكلة، هذه المشكلة ببساطة يمكن أن نقول إنها تجعل لديه حرمانا. حرمان من الحب والاهتمام النفسي بالذات، والرعاية النفسية، والتقبل، وغيره، فيحدث ترجمة خاطئة لدى الطفل، لأنه لم يكتمل لديه الإدراك الجيد المنطقي لهذه المشاعر الخاصة بالحرمان على أنه شخص غير مهم، شخص ليس له قيمة، شخص لا يستحق الحب دون شروط، كالطاعة، أو النظام، أو التفوق الدراسي، ويكون إذن حل تلك المشكلة دون وعي منه هو أن يحاول دائما أن يحقق الشروط المطلوبة حتى يكون محبوبا من الآخرين وموضع اهتمامهم. فنجده يضغط على نفسه في معظم الأحوال ليستمع للناس في أي وقت حتى لو كان مجهدا، أو مزاجه ليس مناسبا، نجده لا يرفض لأحد طلبا حتى لو كان صعبا، أو غير مقتنع بالقيام به، نجده يسترضي معظم الناس دون النظر لنفسه وطبيعتها وملامحها، ورغم أنه يصل إلى مكانة متميزة بالفعل عند الآخرين إلا أن إشباع الحرمان لديه لا يكتمل، لماذا؟ لأنه دون وعي منه ينتظر الرعاية والاهتمام الذي كان يحتاج إليه منذ أن كان طفلا صغيرا من أبويه، فيُحمّل علاقات الصداقة أكثر مما تستطيع، ويجعل طبيعتها تختلف عن الطبيعة الخاصة بنا؛ وكأنه يطلب من الأصدقاء وغيرهم الاهتمام النفسي، والرعاية النفسية، والحب غير المشروط، والتقبل، كما كان يجب أن يحصل عليه من أبويه، وبالطبع لن يجد ذلك. لأن علاقة الأبوين بأبنائهما علاقة غير متبادلة، علاقة عطاء دون مقابل، علاقة غير مشروطة، ولن نجد علاقة هكذا إلا مع الوالدين الأسوياء فقط، فلن تجد تلك العطاءات في علاقة صداقة، أو زواج، أو حتى أبناءك أنت شخصيا، لأنها علاقات متبادلة تقوم على الأخذ والعطاء الخاص بطاقة وطبيعة تلك العلاقات. فصديقك لن يتابع صحتك المعتلّة مثلا يوميا ويتحقق من أخذك الدواء في موعده كل 8 ساعات، ولن يتذكر وحده أنك تحتاج شراء ملابس وعليه أن يفرّغ نفسه للنزول معك لشرائها، وابنك لن يعطيك الدفء والحنان والاحتواء، وزوجتك ستحتاج لأخذ قسط وافر من الحب والدعم حتى تتمكن من قيامها بواجباتها تجاهك وتجاه البيت والأولاد، وسيحدث منها تقصير حتما، ورغم أنها ستعطيك جزءا مما تحتاج إليه لكن حين تغضبها أو تجرحها ستتغير، وستطالب بحقوقها قبل أن تعود لعطائها من جديد، لأنها ليست أمك. إذن إقبالك على المذاكرة لم يكن لحبك لها ورغبة في التفوق بقدر ما كان بسبب الحصول على رضا واهتمام وحب من حولك، وخلافاتك المستمرة مع الأصدقاء ورؤيتهم غدّارين ولا يستحقون عطاءك غير الطبيعي معهم ليس حكما عادلا. فالعطاء جميل، والنفس تُقبل على من يعطيها ولكنك تطلب المقابل، بل ولن يرضيك أي مقابل، بل مقابل تنتظره كما في رأسك أنت، ولكنهم في النهاية ليسوا أبويك فحتما سيقصرون بالمقارنة باحتياجاتك، إذن ما العمل؟ هل تذهب لوالديك توبّخهما على تقصيرهما في حقك؟ أم تتشاجر معهما وتخسرهما؟ أم تنزوي وتترك حياتك بلا معنى تنتظر اللا شيء؟ أم تتخذ الجهد الأقل فتُلقي بمسئولية تعبك الآن على الآخرين المقصّرين وتبرر لنفسك ما أنت عليه الآن؟ لا يا ولدي.. كل تلك الحلول حلول فاشلة ولن تغني ولن تسمن من جوع، بل ستترك آثارا أعظم في نفسك وتسبب لك المزيد من الضيق، والألم، والاكتئاب الذي يتضح في سطورك، لذا عليك أن تبدأ في التصالح مع نفسك، والتصالح الداخلي مع والديك، فهما قصّرا نعم في رعايتهما لك، ولكن هذا التقصير لم يكن أبدا متعمّدا، كان عائدا لجهلهما التربوي الذي قصّر فيه أبواهما هما أيضا، فهما يحبانك ويخافان عليك ولكن وفقا لما يتصورونه من الحب والخوف كما تربيا، أو فهما من التجارب حولهما، أو بسبب غرقهما في مشكلات لا يتم حلها لسنوات وسنوات. أما أنت فلا بد أن تقاوم تلك الإحباطات التي تنسجها أنت بنفسك لنفسك، فأول ما يجب تغييره هو طريقة تفكيرك، فنحن نتعامل مع أنفسنا علميا من خلال منظومة تبدأ بالتفكير، فلدينا أفكار كثيرة في رءوسنا تم تثبيتها لدينا بالتكرار من خلال طريقة التربية والمفاهيم التي يتم توصيلها لنا، ومن خلال تجاربنا في حياتنا مع الآخرين والحياة، وهذه الأفكار والمفاهيم تتحول لمشاعر وأحاسيس نشعر بها وتملأ كياننا، ثم تتحول تلك المشاعر لتصرفات خارجية. مثلا.. أنت لديك فكرة أنك غير مهم، فتتحول الفكرة إلى مشاعر مثل: الدونية، الغضب، الألم، الضيق، العدوانية، فتتحول تلك المشاعر لتصرفات حسب أكثر المشاعر مساحة، فلو مشاعر الدونية وأنك غير محبوب أكثر من العدوانية، فتتحول لتصرفات استجداء رضا الآخرين من خلال استقبالهم طول الوقت، وعدم رفض طلب لأحد، والمذاكرة الشديدة.. إلخ. أو إذا كانت العدوانية أكثر يحدث تمرد، شجار، عنف، إيذاء لنفسك ولغيرك نفسيا، أو جسمانيا، لذا فحين يتطلب الأمر التغيير، فإننا لا بد أن نبدأ بالأفكار والمفاهيم، فلقد وجدنا أن معظم الأفكار التي يتم تثبيتها لدينا في مخّنا وهي تُعرف بالأفكار الأوتوماتيكية والتي يتم التعامل معها على أنها صحيحة 100% ولا تقبل النقاش، أو التعديل هي أفكار سلبية! ففكرة أنك غير مهم فكرة سلبية خاطئة، لا بد من تعديلها لتكون أنا مهم.. فتتحول إلى مشاعر إيجابية، وإقبال، وفرح، ثم تتحول إلى تصرفات خارجية إيجابية كالمذاكرة بسلاسة، تطوير نفسك بدورات وغيره.. إلخ. وحتى يحدث هذا التغيير ستحتاج لوقت وجهد، لأن تغيير أفكار أوتوماتيكية راسخة في الذهن ليس بالأمر السهل ولكنه يمكن جدا، فلتساعد نفسك بأن تكتب مثلا كل يوم مواقف ثبت لك فيها أنك محبوب من فلان، مواقف وجدت نفسك فيها مستقل ولم تستسلم لفكرة إرضاء الكل، محاولة رؤية تصرفات أصدقائك في مساحتها الحقيقية، لترى بالفعل هل هم مقصرون أم هذا هو ظلال الحرمان القديم؟ وهكذا تتدرب بينك وبين نفسك للتخلص من الأفكار السلبية، لأنها غير حقيقية ولكن حرمانك هو الذي زيّفها. ثانيا.. من المهم أن تعلم أنه لن يعطيك أي آخر سواء هذا الآخر صديق، أو زميل، أو حبيب، أو ابن، ما تعجز أنت أن تعطيه لنفسك، فلن تأخذ اهتماما نفسيا من أحد إلا إذا أعطيت أنت نفسك هذا الاهتمام لها أولا، فتراعي مشكلاتها وتحل صراعاتها وتهدهدها وتنمّيها، ولن يعطيك أحد حنانا إلا إذا حنوت على نفسك، فتتوقف عن جلد ذاتك وتذكيرها بضعفها وحرمانها وإهمالها، ولن يعطيك أحد التقبل والحب غير المشروط إلا حين تتقبل ذاتك، وتحبها على تقصيرها وتهذب فيها ما لا يرضيك بهدوء وتؤدة، فقيامك بذلك سيقلل مشاعر الحرمان بشكل كبير جدا. ثالثا.. أن تتقرب من الله عز وجل تقرّبا حقيقيا وليس سطحيا متوقفا فقط على العبادات المطلوبة، ولكن اعرفه كما هو وتأكد من أنه هو البديل الوحيد لحرمان الأمس، فهو من يعطي بلا انتظار لمقابل، وهو من يعفو ويسامح، وهو الذي يفتح لك بابه في أي وقت وكيفما تريد، وهو المانح بلا حدود، فتقرّب له بوجدانك وعقلك وسلوكك دون إفراط يجعلك متشددا لا تعرفه، ودون تفريط يجعلك لا تذكره إلا وقت الضيق وتتصور أن علاقتك به الصلاة كواجب ثقيل. وأخيرا .. أعلم أني كنت صريحة معك جدا، وأعلم أن ما أطلبه ليس سهلا، ولكنك الآن في مساحة المسئولية الجميلة التي تجعلك تربّي نفسك بنفسك كما تحب وترضى لها، دون غضب ودون استهتار لتكون أنت، فلتجعل جمال شخصيتك الحقيقي يظهر ويتنفس، وتذكر أنك لست وحدك أبدا، فالله العظيم معك دوما، ونحن ننتظر تطوراتك وحديثك معنا دوما.