عندما سمعت من حوار د. أحمد زويل على دريم عن مناظرته مع الشاعر "فاروق جويدة"، انشرح صدري، لم أكن أعرف ما هو موضوع المناظرة، أو عما سوف يتناقشان، ولكني منّيت نفسي بحديث يرضي عقلي وقلبي، حديث العلم والمنطق من د. زويل، وحديث الحماس والاندفاع في حب الوطن والناس من الشاعر جويدة، وعندما ذكر زويل تعليق "جويدة" بأنه لن يستطيع منافسته؛ لأنه عالم أول وقوى عظمى (وكأنه يمثل أمريكا بكل ما تحمله من أفكار وعلم وتقدم وديمقراطية) في الوقت الذي يرى جويدة حاله كدولة نامية وعالم ثالث (وكأنه يمثل مصر وكل ما تملكه من حضارة وطاقات غير مستغلة) سعدت أكثر وأكثر. كنت أظن أن هذه المناظرة سوف تجيب عن أسئلة عديدة، تشتعل في عقلي بلا إجابة منذ مدة طويلة، مثل: لماذا نكره أمريكا؟ أو لماذا يتم تصدير كراهيتها لنا بشكل أو بآخر؟ وهل تلفظ مصر أبناءها بالفعل؟ وما هي قضيتنا الحقيقية؟ هل هي نهضة مصر؟ أم القومية العربية؟ أم دولة إسلامية؟ أم التقدم البشري العالمي بشكل عام؟
أسئلة كثيرة حول العولمة، وتأثير التكنولوجيا على الإنسان وأخلاقياته، وعن المشاعر والحنين إلى الوطن، وعن غربتنا داخله وخارجه، أسئلة عن النجاح، وعن تحقيق الذات، وعن الحرية.
أسئلة قد تكون بعيدة كل البعد تماما عن موضوع المناظرة الأصلي كما أوردته بعض الصحف، وهو نظرة العلم للأدب والشعر، ونظرة الأدباء والشعراء للعلم والعلماء، وربما لم تكن المناظرة بوقتها المحدود ستسعها، ولكن على أي حال ربما كانت لتجيب على بعض منها، أو ربما كنت سأستطيع أن أعرف إجاباتها من نظرات عيونهم وإشارات أجسادهم وابتساماتهم التي تحمل تجربة كل منهم عبر رحلته مع الحياة.
فلقد سمعت أن زويل وجويدة من أبناء دمنهور، وأنهما درسا سويا بالمدرسة الثانوية، وعندما تفرقت بهم السبل، جاء جويدة إلى القاهرة، وبعد رحلة كفاح أصبح شاعرا شهيرا ومبدعا رغم تحفظات النظام عليه، والتي لمستها بنفسي من إلغاء ندواته عادة بكلية الآداب جامعة القاهرة أثناء دراستي فيها. وسافر زويل ليكمل دراسته بجامعة الإسكندرية ومنها إلى أمريكا، (ليصبح مصرياً أمريكياً) ويحصل على نوبل في الفيزياء وجوائز أخرى كثيرة ويصبح علامة من علامات مصر المشرفة، وفي الوقت نفسه ندبة في جبينها بأنها تركته ليعلو نجمه خارجها، وكانت ولا تزال لا ترعاه حق رعايته كعالم فذّ.
لست وحدي، أنا والكثيرون كنا ننتظر هذه المناظرة، نصف شباب مصر الذين يحلمون بالسفر والهجرة، ويتمزقون بين البحث عن فرصة وبين البقاء في ظل الوطن والأحباء، كانوا ينتظرون هذا اللقاء بشغف.
ولكن جاء الخبر ال..... لا يوجد وصف مناسب، ولا أريد تلويث المقال الذي يتحدث عن أشخاص بهذه الروعة، بسباب قذر كالذي يقفز إلى عقلي الآن.
"سيتم إلغاء المناظرة!!!!!!!!"
لماذا يتم إلغاء مناظرة ( زويل – جويدة )؟ يجيب محسن بيه المسئول أن أوبرا دمنهور لا تسع سوى 450 شخصا، وأنهم يخشون توافد الجماهير، والحل الألمعي لهذه المشكلة هو إلغاء المناظرة تماما.
طبعا هذه الإجابة لا تقنع طفلا صغيرا، فلماذا لم ينقل محسن بيه مكان المناظرة إلى قاعة المؤتمرات أو دار الأوبرا المصرية أو استاد القاهرة، ولا هو الإستاد للمنتخب وعمرو دياب وهيفاء، وحرام على العلماء والشعراء.
أثناء كتابتي لهذا المقال تناقلت الصحف الإلكترونية خبر نقل "الندوة" إلى الإسكندرية، ومشاركة الشاعر فاروق جويدة فيها بقصيدة وختامها بحفل فني، فانتظرت قليلا حتى أعرف آخر التطورات، وبالفعل كانت الأخبار مذهلة ومحبطة جدا بالنسبة لي، وبالتأكيد لكل من ينتظرون هذا الحدث.
فقد طالعتني "المصري اليوم" هذا الصباح بخبرها عن "الحدث" الذي تقرر إقامته أخيرا في دار الأوبرا بالقاهرة مساء السبت المقبل، ولكنه تحول بقدرة قادر ليصبح "ندوة" وليس "مناظرة"، وليستبعد الشاعر الجميل "فاروق جويدة" منها، فكما ذُكر بالخبر: "على أن تكون مقصورة على استضافة زويل دون جويدة".
بالله عليكم، ماذا تسمون هذا؟ للمرة الثانية لا أريد تشويه مقالي بكلمات نابية!!!
لقد اكتفى جويدة بالتعليق على قرار الإلغاء بقوله: "بخلوا علينا بأمور صغيرة"، ولكني لا أراها صغيرة، ولا أظن أنه مجرد قرار بإلغاء "حدث" ثقافي أو تغيير كينونته واستبعاد شخص منه لأسباب لا يعلمها إلا الله، إنهم يمنعون النور من الوصول إلينا، وهذا ليس بالأمر الهيّن أو الصغير.
لأن "محسن بيه المسئول" لا يعرف الفرق بين المناظرة والندوة، أو يعرف ويظن أن مواطنيه الجهلاء -من وجهة نظره طبعا- لا يعرفون ما معنى "مناظرة" أصلا!!
وهذا يذكرني بالعام الماضي وأثناء دراستي في أمريكا فوجئت بدعوة مدرستي إلى مشاهدة المناظرة الأخيرة بين (أوباما وماكين)، وأخيرة معناها أنه كان هناك الكثير من المناظرات بين المرشحين للرئاسة، وبين نوابهما وكلها يتم إذاعتها عبر التليفزيون، المهم ذهبنا إلى مقهى وفوجئنا بشاشة عرض كبيرة لا أراها عادة في مصر إلا لعرض مباريات كرة القدم وأغاني الفيديو كليب، ومع اقتراب بدء المناظرة بدأت الجماهير تتوافد على المقهى، وبدأوا يجلسون في صفوف، وبمجرد أن بدأت المناظرة، وبدأ كل من المرشحين في عرض أفكاره، أو طرح اتهاماته أو الرد، كانت تتعالى صيحات الجماهير وضحكاتهم وتعليقاتهم وتشجيعهم لأحد المرشحين، وفي اليوم التالي سألتني صديقتي الأمريكية: كيف كانت إجازتك؟ أجبتها: كانت جميلة، لقد أخذتني مدرستي لمشاهدة مناظرة أوباما وماكين الأخيرة، فسألتني: وهل أعجبتك؟ قلت لها: إنها جميلة ذكرتني بمشاهدة مباريات كرة القدم على المقهى في مصر... قالت لي: لماذا؟ أليس لديكم مناظرات مثل هذه في مصر؟ أجبتها ضاحكة: لدينا نفس الرئيس لمدة 28 عاماً فلماذا سنقيم مثل هذه المناظرات. وتركت الاندهاش على وجهها وذهبت.
لماذا ستكون "الندوة" مقصورة على استضافة زويل دون جويدة؟ لأنه المبعوث العلمي للرئيس الأمريكي باراك أوباما لأسباب أمنية لأنه لا كرامة لنبي في وطنه لا أعرف