أرسلت بعض زملائي مع كاميرا إلى شوارع القاهرة بأسئلة بسيطة عن حرب أكتوبر. استوقفوا ثلاثة وعشرين شاباً وفتاة بين العشرين والخامسة والعشرين من العمر بشكل عشوائي في منطقتين، إحداهما راقية والأخرى شعبية. السؤال الأول: "بماذا يذكّرك 6 أكتوبر؟". أربعة فقط منهم ذهب تفكيرهم إلى انتصارنا في حرب أكتوبر عام 1973. أما الباقون، ونسبتهم تزيد على 82%، فقد تراوحت إجاباتهم بين "مدينة جامدة بس ناقصها مترو"، "كوبري زحمة وكل يوم حوادث"، و"ده عيد ميلادي، بيفكّرني ببابا وماما". أحدهم -من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أنه تاريخ مرتبط بحدث ما- رجح أنه ربما كانت حرباً بين مصر وإنجلترا، وآخر قطع بأن رئيس مصر أيامها كان حسني مبارك.
لابد أن الذي سك تعبير "شر البليّة ما يضحك" كان يفكر في موقف كهذا، سوى أن الضحك سرعان ما يتوارى كي يحل محله إحساس عميق بالمرارة والحسرة.. إحساس مَن يرى أمامه ولداً يركل رفات أبيه الشهيد وهو لا يعلم، أو يصفع وجه أبيه البطل الذي عاد له من ميدان المعركة بالكرامة في أحلك الظروف. ولا يقل مرارةً عن ذلك أنك لا تجد في نفسك ما يكفي من الأسباب كي توجه اللوم إليهم، ولا تجد في قلبك من الشجاعة كي تعترف بأن هذا مؤشر على فشل مجتمع كامل.
سينزعج "السيد الجعبيري"، مجند الصاعقة الذي خرج من قرية "منشية جنزور"، مركز طنطا، غربية، كي يعود إليها بطلاً يلهب خيال أطفالها، وأنا واحد منهم، بحكايا وبطولات تتحدى قواعد العسكرية وقوانين الطبيعة. وسينزعج مدرس الألعاب في ابتدائية قرية "فزارة"، مركز المراغة، سوهاج (التي انتقل والدي لعلاج أبنائها)، وهو يهيئ لنا بِرْكة من الماء نعبرها، وتلاً صغيراً من الرمال نعتليه كي نرفع علم مصر، وسينزعج اللواء حسني مبارك -أو هكذا نتمنى.
"كل شيء تحطم في نزوة فاجرة.. والذي اغتالني ليس رباً ليقتلني بمشيئته.. ليس أنبل مني ليقتلني بسكينته.. ليس أمهر منى ليقتلني باستدارته الماكرة".. أو هكذا سينزعج أمل دنقل في قبره، وستتجمد حبيبات الدم التي لم تهدأ بعد في عروق محمود عوض، وسيحمل شيخنا الذي يجلس على قارعة شارع المعز لدين الله عصاه ويمضي. هكذا سنشتاق اليوم إلى أن تضيع منا أرضنا مرةً أخرى، إذا كان ثمن احتفاظنا بها أن نخسر أنفسنا.
دعوة إلى الحرب.. نعم، دعوة إلى الحرب. لكنها حرب من نوع مختلف يقع ميدانها في بيوتنا وشوارعنا ومدارسنا وجامعاتنا ودور عبادتنا وإعلامنا. لقد خسرت مصر حتى الآن منذ توقيع معاهدة "السلام" جيلين على الأقل، ينتمي أبناؤهما اليوم إلى روتانا وماكدونالدز والساحل الشمالي أكثر من انتمائهم إلى أنفسهم، لا لشيء إلا لأننا لم نُتِح لهم فرصة حقيقية لتحقيق ذلك قبل أن يكون من حقنا أن نوجه إليهم جانباً من اللوم.
إن أمة بلا ذاكرة وبلا علم هي أمة ماسخة، لا تستحق يومها أو غدها، وهي أمة لابد أن تدفع الثمن. نقلا عن المصري اليوم