ما زلتُ في مقعدِ الطفل، تشربُ من شفتيّ الفراشاتُ، والغيمُ يمشي علي نبضِ قلبي، وإنّ النيازكَ نائمةٌ في دمي. وإنّي أراني هنا أو هناك، وجَمْعُ الرجال يحيطونَ بالكوكبِ المستديرِ، أعني البُحيرةَ في القلبِ من جلسةِ الساهرين، أو كأسَ ماءٍ يَشبّ ببلّوره لفمي. وفي الصَّدْر يملأُ شيخُ المكانِ الظلالَ، الشبابيكَ، نارَ الوجاقِ،الأباريقَ، حتي يفيضَ الكلامُ ويطفوَ كالماءِ علي السُّلَّمِ المُعتِمِ.. فَيَأْسرُنا حيث شاء، ويُطْلِقنا إنْ أضاء، ويسحبنا خلفَ ذاك الرداء، ويهمسُ حتي يكون الخفاء، وأحسبُ أنَّ أصابعه قَبَضَتْ معصمي. وما زلتُ أسمع كلَّ رواياته مرّةً إثر أخري، وفي كل ليلٍ أري القشعريرةَ قد وصلت أنْجُمي.
.. وقال لنا في الليالي الحكايا؛ عن الزيرِ والملكِ السيفِ، والذاتِ في حُسْنِها، والصعاليكِ، عن تُبَّعٍ في الأنام، وتغريبةٍ لا تنام، وعن أشْوَسٍ لا يُضام، وقِصَّةِ مملوكةٍ في الخيام، وعاشقةٍ مثل بَدْرِ التّمام، وقصَّةِ ذاك الإمام الذي قطعوا رأسَهُ إنّما ظَلَّ يمشي علي هَدْي شريانهِ في الظّلام، وعن شهريارَ وسَفْحِ القطوفِ وَحَدِّ الزؤام، وعن راهبٍ في البعيد أذابَ أناجيلهُ لليمام، وعن حامل الماءِ حين هوي في مناديل شُبّاكِها، والغلامُ ذوي حسْرَةً، يا غيومَ الشجون اذكري جُثة في الغمام! وقال لنا الحكواتي صحائِفهُ كُلَّها، مثلما شاءَ لها أن تكونَ؛ بالشِّعْرِ والقصَّ والجرْس والمدَّ والشَدَّ والوَقفِ والسَرْدِ.. أو مثلما عاشَ مع أهلِها.. ثمَ غاب.
إلي أينَ، يا أيُّها الحكواتي، الذي عَبَّأ الناسَ بالنار، جئتَ لنا بالرجال الرجال، والحقِّ والعدلِ، والعشقِِ والشهواتِ الثقالِ، بالجانِ والسِّحرِ، والموتِ والبحرِ والخيلِ والبدرِ، والماءِ والجمرِ، والرّجْفةِ الخوفِ والرُّمحِ والصَدْر، وارتِعاشاتِ أشجار مَن ذهبوا في السؤال.. إلي أينَ يا أيها الحكواتي تروحُ، وتترُكُ مَقعَدك المُتعال؟ تعالَ! فمن يجمعُ الأهلَ بعدَ التراويحِ، منْ يصهرُ الثلجَ في مرجلِ الشمس، إنْ رَهَجَتْ في الليالي الطوال؟ ومَنْ يجمعُ الطيرَ ثانيةً للنبيّ، ويُطلِقهُ في نداءِ الجبال؟ ومَنْ يغسل القلبَ من طينه، إنْ أتي ناعياً نبضه في الرمال؟ ومَنْ يستعيد الموازين للناس، إنْ ظلمت كفُّ مَن فصلوا في المقال؟ ومَنْ ينشرُ السّلْمَ في كلّ بيتٍ، ويفردُ في الأرض بردَ الظلال؟ تعالَ! فقد هَرقوا ما بهم، واستعانوا بمَنْ سرقَ الحقلَ، والحيُّ منشغلٌ بالقتال!
تعالَ، فمنْ يُشْعِلُ الحَربَ، بعد العشاء، ويخْمِدُها كي تنامَ رماداً، إذا جاء وقتُ السحور، لكي لا يفورَ الحضورُ، وتبقي عَجَاجَتها في الديار. تعالَ، لتجلوَ هذي المرايا، وتنعفَ في مَسْكبِ السامعينَ النَثار، وتبقي المداركُ كارهةً للضلالاتِ، والروحُ علي عرشِها في الحصار. تعالَ! فلا طعمَ للسّحْلبِ الشّهدِ في جَمْعَةٍ السامر الدافئ المُستكين بلا قِصَّةٍ تأخدُ الشمْسَ للدار، لا لونَ للسُّوس والتمْر والشاي والزنجيل بلا ساقِ تلكَ المليكةِ إنْ كَشَفتْ بَرْقها للنهار، ولا ريحَ فوقَ شَهْدِ الخوان المُرَصّع بالعسل المُسْتطاب إذا انكسرَ اللحنُ في فضّةِ الانتظار.
إلي أينَ تمْضي، وتترُك هذا الزمانَ بلا قِصَّةٍ أو غِناء؟ لا بُدّ من حكواتي يجيءُ ليملأ هذا الفضاءَ، ويَقسِمنا، إنْ أضاءت تفاصيلُهُ وجهَ مَن قتلوا بَعْضَهُم في العراءِ، فتلقي وجُوهاً تناصِر "جَسّاسَ" في حَرْبهِ ضِدَّ من أثخَنَ القطعَ في الحَبْلِ.. أو تجدوا مَنْ يُظاهرُ "الزيرَ" في أخْدِ ثأر الأخوّةِ قد خاتلوا القائدَ الفذّ لا بُدَّ مِنْ دَمِهم، فإذا ما أُبيدوا وقد رَنَخَ الطينُ، فالصُّلحُ رايتُنا نرْفعُها للسماء.
ولا بُدَّ من حكواتي يُعَلّمُنا الحُبَّ، يَجمَعُنا بالوحوش الأليفةِ، حتي يَظلَّ بنا الطفلُ طِفلاً، وقد شَفَّ فينا الرُخامُ المُخَبَّأ، أو نعتلي شَهْقة النحْلِ، إنْ سالَ تِرياقُ تيجانِها في الرضابِ. ولا بُدَّ من حكواتي يُعيد لنا كَرْمَنَا، يستردّ الدوالي الثياب، ويُرْجِعُ للرُمحِ لمْعَتَه في الضبابِ، ويا أيُها الحكواتي! إلي أيْنَ تمضي وتترُك هذا الزمانَ بلا صَفحَةٍ أو كِتاب؟ لماذا تقومُ، وتَترُكنا هكذا.. في حضور الغياب ؟!