تحدثتُ في الجزء السابق عن العوامل التي توفّرت في صف جبهة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه وساعدتهم على التعامل الفعال مع المؤامرات الموجهة ضدهم من مختلف الأعداء الراجعة عداوتهم لأسباب متنوعة، فذكرتُ عاملين هامين هما "مصداقية القائد/النبي" و"تنوع البنيان البشري لأتباعه من حيث الثقافة والعشيرة والخبرات الحياتية". هذان كانا عاملين شديدي الأهمية، ولكنهما ما كانا ليكفيا لتحقيق النجاحات المتتالية للمسلمين في صد مؤامرات خصومهم والرد عليها بما يجب للردع، فثمة عاملان إضافيان كان لا بد من توافرهما ليتحقق ذلك النجاح المذكور. التحرر الفكري: هو عنصر من الضروري توفره فيمن ينتظر من حين لآخر تدبيرًا معاديًا، فهو -التحرر الفكري من الثوابت- مما يساعد المرء في سرعة استيعاب مختلف أنواع وأشكال الخداع والتآمر، وعدم التوقف كثيرًا بفعل الصدمة وعنصر المفاجأة، ويعينه على أن يستوعب بسرعة كبيرة المعطيات الجديدة في مؤامرات العدو. والمدقق في الجانب الفكري للغالبية الساحقة من أتباع الدين الجديد -السابقون منهم بالذات- يلاحظ أنهم ممن يتوفر لديهم قدر معين من التحرر الفكري. فلو نظرنا لفئة "الأنصار" -أهل المدينةالمنورة- سنلاحظ أنهم كانوا قد خطوا بعض الخطوات في طريق التطور من مرحلة المجتمع البدوي الساذج للمدينة القائمة على التجارة والزراعة والتعايش بين قبيلتين عربيتين -الأوس والخزرج- وثلاث قبائل يهودية عربية -بنو النضير، بنو قريظة، وبنو القينقاع- فضلاً عن أن حِدة العسف الواقع من السادة على فئة العبيد كان أخف منه في مكة نفسها، أي أن يثرب (المدينة) كانت مجتمعًا متقبلاً لفكرة التغيّر الاجتماعي، والتحرر الفكري بشكل عام، وهذا مما رشحه ليكون المَهجَر المناسب لاحتضان الدعوة الإسلامية. وفئة "المهاجرين" -من مكة بالذات- فتميزت بأن كانت السمة الغالبة على أفرادها هي اتساع الأفق ورحابة الصدر لاستيعاب المستجدات، بحكم انتماء أغلبهم لمرحلة الشباب -كعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب- أو تمتعهم بثقافة واسعة -كأبي بكر الصديق. أما المنتمون للقبائل الأخرى، التي دخلت في الإسلام واحدة تلو الأخرى بعد الهجرة، فكانوا في الغالب من المتطلعين لخروج المجتمع العربي من دائرته التقليدية المغلقة المتوقفة بالزمان. إذن فقد تمتع المسلمون الأوائل بميزة "تحرر العقل من الثوابت الجامدة" التي كانت نقطة قوة لهم في مواجهة جبهة الكافرين التي سيطر عليها الجمود والتمسك بالموروث والتقليدي من الأنماط والأساليب. وهذا الفارق انعكس على مختلف صور الصراع بين الجانبين، ولم يكن التآمر والتآمر المضاد استثناءً عن ذلك الواقع، فقد تميز الجانب المسلم فيه بالمرونة والقدرة على تطوير الأساليب واستحداثها، خاصة في مواجهة المؤامرات المشتركة بين أكثر من خصم، كتحالف قريش مع بعض القبائل، واستمالتها يهود بني قريظة لضرب المسلمين من الظهر في غزوة الخندق، أو في مواجهة الدسائس الداخلية المتمثلة في حركة "المنافقين" بقيادة عبد الله بن أُبيّ بن سلول. فضلاً عما كان لذلك من أثر في سرعة انسجام أتباع محمد -عليه الصلاة والسلام- وتناسقهم وقت التدبير والتنفيذ من ناحيتي التفكير والأداء، رغم تنوعهم الثقافي والاجتماعي. رابطة الدم: من أدق الأوصاف التي أطلقها بعض المعاصرين للدعوة الإسلامية أنها دعوة "تفرق بين الأب وابنه والأخ وأخيه"، فبالفعل كان المسلمون الأوائل -تحديدًا المهاجرين- من المنتمين لكبار بيوتات مكة، فمنهم ابن زعيم العشيرة كأبي بكر الصديق ابن سيد بني تيّم، ومنهم فارس العائلة كخالد بن الوليد، وفيهم داهيتها كعمرو بن العاص، أو تاجرها البارع كعبد الرحمن بن عوف. إذن فمن كانوا بذرة الجانب المسلم هم "فلذات أكباد" قريش، وأبناء الملأ الأعلى منها، لا أبناء الأراذل وخاملي الذكر، صحيح أن نسبة ضخمة من المسلمين كانت من العبيد كبلال بن رباح أو الحلفاء كعمار بن ياسر، ولكن أبرز من قادوا الجانب السياسي والعسكري من الحركة الإسلامية كانوا من أبناء أشراف قريش، أو كما يقول دكتور حسين مؤنس إن "قريشًا شابة نشأت في المدينة بينما أخرى عجوز احتضرت في مكة"، وليس معنى هذا أن الإسلام أقرّ التفرقة الظالمة السابقة بين الناس، وإنما كان سبب تصدر هؤلاء للزعامة هو ما وفّرته لهم مراكزهم الاجتماعية من تعليم وثقافة وتدريب على أعمال السيف والقلم. إذن فما غيّره الإسلام كان سبب تولي المهام القيادية، فبعد أن كان النسب فحَسْب أصبحت الكفاءة هي المعيار. وعودة لموضوعنا، رابطة الدم، فوجود تلك الرابطة بين من هاجروا ومن"هُجِروا"خلق تخلخلاً في الطاقة البشرية القرشية، صحيح أن أناسًا مثل عمرو بن هشام (أبو جهل) وأبي سفيان بن حرب (قبل إسلامه) كانوا أكفاءً لقيادة جبهتهم إلا أن الخسارة كانت فادحة بالفعل. ولكن أثرها القوي في الجزء التآمري من الحرب بين الجانبين تمثلت في أن المهاجرين كان كل منهم يحمل مخزونًا ضخمًا من الخبرات بشأن أساليب عشيرته في التفكير والتدبير، ونفس الشيء انطبق على كل من أسلموا من قريش وغيرها من القبائل، أي أن المسلمين تكوَّنت لديهم مع الوقت حصيلة ضخمة من المعرفة بأساليب وفنون وأنماط الخصوم، وهي معرفة تضيف لقوة صاحبها المزيد عملاً بقاعدة "المعرفة تساوي القوة"، الأمر الذي يؤكده وجود خبراء في أغلب أجهزة المخابرات الحالية لدراسة وتحليل الجانب الآخر. تلك الحصيلة المعرفية كانت خير عون للمسلمين في تحليل تحركات الأعداء وتوقّع دسائسهم وتدابيرهم لضرب الإسلام، فضلاً عن أنهم -المسلمين- استغلوها ببراعة للقيام بمختلف عمليات التمويه والتضليل والتعمية على أية تدابير مضادة يدبرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه. أما الفائدة الأخرى لتلك الصلات العائلية فكانت وجود قنوات اتصال دائمة بين المسلمين ومن يمكن استمالتهم من أقاربهم لاعتناق الإسلام، فضلاً عن أن العاطفة جعلت من أولويات المسلم -القرشي بالذات- أن يجذب آله للإسلام بشتى الطرق وجعل محاربتهم الخيار الأخير، مما جعل المسلمين يسعون دائمًا؛ لأن تتسم سياستهم بإعطاء فرصة دائمة للعدوّ ليتحول إلى صديق وأخ، الأمر الذي ساعد بالفعل في زيادة عدد المنضمين للجبهة المسلمة. الخلاصة: العوامل الأربعة سالفة الذكر -في هذا الجزء والجزء السابق- مثّلت "العوامل المتوفّرة بطبيعة الحال" في جانب المسلمين، أي أنها كانت من ما يمكننا وصفه ب"التدابير الإلهية" أو "العوامل الموجودة مسبقًا دون تدخل من أصحابها"، ويجب التفرقة وعدم الخلط بينها وبين "كيفية استغلالها"، تمامًا كما نتحدث عن حضارة قديمة، فنصف مناخها وجغرافيتها وثرواتها الخام بأنها "عواملها الطبيعية"، أما المجهود المبذول لاستغلال تلك العوامل فهو شِق آخر ينبغي توفره لقيام الحضارة. إذن فالعوامل "الطبيعية" المذكورة، والمتوفر لدى المسلمين الأوائل لم تكن كافية ليحققوا النجاح في صد مؤامرات أعدائهم، فلكي يحققوا ذلك النجاح كان لا بد من وجود سياسة ذكية بارعة تُطَوِّع الظروف وتستغلها لصالحها؛ ليتحقق النصر في تلك الحرب التآمرية الضروس.. والسؤال الآن: كيف استغلَّ المسلمون الأوائل ما لديهم من معطيات للتفاعل مع المؤامرات المستمرة من قِبَل أعدائهم -قريش واليهود والمنافقين- الرامية للقضاء عليهم؟ (يُتبَع) مصادر المعلومات: 1- البداية والنهاية: ابن كثير. 2- عبقرية محمد: عباس محمود العقاد. 3- مقدمة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون. 4- تاريخ قريش: د.حسين مؤنس. 5- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 6- محمد نبي لزماننا: كارين أرمسترونج. 7- تاريخ العرب قبل الإسلام: د.محمد سهيل طقوش. 8- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 9- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان. 10- جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلّو. 11- رجال حول الرسول: خالد محمد خالد. 12- خلفاء الرسول: خالد محمد خالد. 13- تاريخ المذاهب الإسلامية: الإمام/ محمد أبو زهرة. 14- موسوعة عظماء حول الرسول: خالد عبد الرحمن العَك. اقرأ أيضا: تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (2) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (3) تاريخ شكل تاني المؤامرة (4) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (5) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (6) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (7) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (8) تاريح شكل تاني... المؤامرة (9) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (10) هكذا كان الرسول نبياً وزعيماً في نفس الوقت (11)