سلام الله من الشاعر على الشعّار والجمهور وسلام الله من قلبي على الأردن شقيقتنا سلام ويا صباح النور ولا يا مساء النور على طلابنا الغياب مع طاقم سفارتنا على دار الشريف اليوم جينا والصدر مسرور من بلاد الكرم والطيب دار الخير ديرتنا طلال بندر انطلقنا من عمان في الصباح الباكر.. متّبعين ما يقوله الدليل؛ فأخذنا نصف الطريق بالمواصلات العامة ونصفه الآخر بالتاكسي.. خارج عمان لم يعد عداد التاكسي هو الفيصل؛ بل الأجرة التي تتفق فيها مع السائق في البداية.. وبما أنني العربي مع اثنين من الأجانب في أرض عربية، فدوري الأبدي أن أتولى أنا هذه المهمة.. وهي تبدأ بسؤال المارة أولا عن السعر المناسب، ثم إيجاد سائق التاكسي والتفاوض معه على السعر الأمثل، وطرح السعر على أصدقائي لنقرر معا ما إذا كان سعرا مناسبا أم أن علينا التفاوض من جديد أم البحث عن تاكسي آخر.. ولحسن الحظ كان السعر الذي طلبه السائق الأردني الشاب مماثلا لما يقوله كاتب قسم "الأردن" في دليل "الشرق الأوسط" لLonely Planet.. عظيم.. لم يتم خداعنا بعد! لا يزال أمامنا خياران يشير إليهما الكتاب..الشاطئ السياحي الفاخر والشاطئ العادي.. نسأل سائقنا الشاب عن الفارق؛ فيؤكد أن الاثنان متشابهان سوى أن الأول يحتوي على حمامات سباحة لذلك فتذكرة دخوله أغلى.. هل نحن بحاجة إلى حمامات سباحة يا رفاق؟.. نحن ذاهبون لخوض تجربة البحر الميت ذاته وليس للترفيه في حمامات السباحة.. إذن إلى الشاطئ الأرخص عزيزي السائق. أخيرا شاطئ عمّان السياحي.. أشهر الشواطئ الواقعة على البحر الميت، وأقربها إلى عمان.. أقل من ساعة بالسيارة تنزل فيها من العاصمة التي تعتلي التلال السبعة إلى أخفض بقعة على سطح الأرض.. نعم؛ فالبحر الميت يقع على عمق 417 متر تحت سطح البحر. لابد أن نتفق أن البحر الميت تجربة فريدة من نوعها، لا يمكنك أن تخوضها سوى في الأردن.. هذا بحر يمكنك أن تطفو على صفحته بالمعنى الحرفي لكلمة "تطفو".. ما إن تحاول -فقط تحاول- أن تسترخي حتى تحملك المياه لتطفو فوقها.. هنا يمكنك أن تكتشف روعة هذه المياه الدافئة باستمرار وتتأمل عيناك السماء الجميلة الصافية وتختلس النظر إلى الجانب الآخر من "الميت".. ألا تعرف ما في هذا الجانب؟.. إنها الضفة الغربية! يبلغ طول البحر الميت نحو 80 كيلومترا وعرضه 14 كيلومترا، ومياهه الغنية بالأملاح والطين تجعله هدفا علاجيا للأمراض الجلدية، تأتيه المياه بصفة أساسية من نهر الأردن، بالإضافة إلى ما يأتيه من وادي زرقاء ماعين ومن نهر الموجب ومن عين جدي غربا.. سموه بالبحر الميت لأن نسبة الملوحة فيه تسعة أضعاف نسبة الملوحة في البحر العادي، وهو ما يجعله خاليا من الكائنات الحية إلا في أشكالها الدقيقة. البحر الميت يعاني من مشكلة نقص شديد في مياهه (عدسة علاء مصباح) تقول النظريات إن البحر الميت كان قبل مليوني عام بحيرة واسعة امتدت في الأردن، وكانت تصب في البحر المتوسط، ثم أسفرت التغييرات الجغرافية وعلو الأرض إلى حصر المياه في البحر الميت ونهر الأردن وبحيرة طبرية، وكان انخفاض البحر الميت سبباً في حصر مياهه وتزايد نسبة الأملاح فيه. المشكلة أن البحر يعاني من مشكلة نقص شديد في مياهه؛ إذ يفقد سنويا 30 سم، وهو ما يهدد بجفافه في عام 2050 إذا ما لم يجد جديدا لتزويده بالمياه.. فعمليات الاستغلال غير المسئولة لنهر الأردن من جانب المملكة الأردنية وإسرائيل تجعل النهر -المصدر الأول لمياة البحر الميت- يواجه مشكلة الجفاف، وهو ما يهدد المنطقة بمشكلة جغرافية كبيرة.. فالمياه أمر حيوي؛ لا سيما لدولة مثل إسرائيل تخلو أرضها من أي مصادر للمياه النقية.. لا ينبغي أن ننسى هنا أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات كان يلعب بورقة مياه النيل، ويعتبرها أهم أوراقه الرابحة في مفاوضات كامب ديفيد مع إسرائيل، وهو يحلم بأن تنفذ له إسرائيل مطالبه مقابل شق فرع من النيل ليروي الصحراء الإسرائيلية، وهو الأمر الذي أكده محمد حسنين هيكل في كتاباته. بالقرب من البحر الميت يقع مغطس المسيح عيسى عليه السلام، في المنطقة المسمّاة الآن بيت الخرار -وقديما بيت عنيا- إلى الشرق من نهر الأردن.. هناك وقف المسيح ابن الثلاثين عاما بين يدي النبي يحيى عليه السلام ليتم تعميده بالماء، ليبدأ بعدها رسالته بالتبشير بالمسيحية.. هذا المكان زاره البابا يوحنا الثاني العام الماضي، وأعلنه مكانا للحج المسيحي في الأردن إلى جانب أربعة أماكن أخرى هي قلعة مكاور، جبل نيبو، مزار سيدة الجبل في عنجرة، مزار النبي إيليا في منطقة خربة الوهادنة. تعرفنا خلال سباحتنا في البحر الميت على شابين عربيين، كانا يتوددان لنا باستمرار، وقد أسعدهما وجود أجنبين معهما في البحر.. كما هي العادة كنت حلقة الوصل والتفاهم بين الشابين وبين صديقي، فإنجليزيتهما ركيكة نوعا.. كانا الشابان شقيقان فلسطينيا الأصل يعيشان مع أسرتهما في عمان.. دعانا ل"نأكل لقمة مع بعض" فرحب صديقي بالدعوة وكنت فخورا من جديد بالدعوة العربية.. عندما انصرف الشابان ليبدآ الشواء، انطلق صديقي هنري يمدح الكرم العربي الذي يصادفنا في كل مكان منذ بدأنا هذه الرحلة.. فسألته في خبث عما إذا كنا نتجول الآن في أوروبا، ألم يكن ممكنا أن نصادف من يدعونا للغداء بالبساطة نفسها؟.. تبادل هنري النظرات مع كريس، وتجادلا للحظات بالألمانية السويسرية، قبل أن يتفقا أمامي بالإنجليزية أن الأمر ليس بهذه البساطة في أوروبا.. صديقك هناك سيدعوك حتما للعشاء، أما من لا تعرفهم فلن يفعلوها غالبا؛ إلا إذا كانوا من محبي السفر الذين يفهمون جيدا معنى أن تكون رحّالا غريبا جائعا مسكينا! واستمرارا لمسلسل الكرم العربي؛ فقد عرض علينا الشابان الفلسطينيان اصطحابنا معهما في سيارتهما في طريق عودتهما إلى عمان.. وكان عرضاً مغرياً لا يمكن رفضه.. فالليل قد أسدل ستائره ومن الصعب أن نجد "تاكسيا" في هذه المنطقة النائية حيث لا شيء سوي شاطئ البحر الميت.. قبلنا الدعوة ممتنّين وأخذَنا الشابان معهما إلى العاصمة الأردنية، ثم أصرّا أن يدعوانا لتناول الشاي معهما في منزلهما.. قضينا أكثر من نحو الساعة نرتشف الشاي بالزعتر المحبب جدا، والذي هام به صديقي عشقا منذ جرباه في بيروت.. تحدثنا كثيراً حتى أدلى إلينا الشابان بمعلومة مهمة لم يصرحا بها من قبل.. أنهما يحملان بطاقة هوية إسرائيلية ويعملان معا في ميناء إيلات.. بإسرائيل! غدا نزور البتراء... اقرأ أيضا: مملكة الصحراء (1).. عمان روما العرب!