كتب: صلاح سالم ما الذي قامت به المعلّمة إيمان أبو بكر، عندما قامت بقصّ شعر تلميذتَيْها بالأقصر مني الراوي وعلا قاسم، ثم قامت بتذنيبهما كونهما لا ترتديان الحجاب؟ إنه نوع من التعذيب النفسي لطفلتين في عمر الزهور، يشي بروح سادية تخلو من الأمومة المفترضة في امرأة، ومن التربوية الضرورية في مُدرّسة؛ فهل لذلك علاقة بالنقاب الذي ترتديه المعلّمة، وبما يُشكّله من ضغط نفسي على جسدها، يفقدها بعضا من روحها، ومن قدرتها على التواصل الإنساني؟ استمر الزي الإنساني منذ عصر الحضارات الكبرى، وتحوّل الإنسان عن أنماط العيش البدائي نحو التمدين، يلعب الدور نفسه وهو تحقيق التوازن بين طرفي معادلة الاحتشام-الجمال، مع تباين في درجة الميل إلى أيّهما؛ ففي الحضارتين البابلية والفرعونية تحقق نوع من التوازن بينهما، أما الحضارة اليونانية فمالت إلى الجمال على حساب الاحتشام؛ حيث ساد نوع من تقديس الجسد الإنساني، وهيمنت الرغبة في الاحتفاء به. وفي البيئة العربية الجاهلية راوحت المعادلة بين طرفيها بحسب البيئات،؛ فمالت نحو الاحتشام في مواطن البداوة، وإلى التعرّي في البيئات الحضرية؛ خصوصا لدة الطبقات الأكثر فقرا أو الأرقّاء الذين لم يشعروا بكرامة أجسادهم في ظلّ انتهاك شخصياتهم بل وأرواحهم نفسها، فيما مالت نساء الطبقات الأعلى إلى التوازن. أما الإسلام، فقد أخذ النهج المعتدل محققا التوازن المنشود، مؤكّدا الاحتشام الذي عبّر عن نفسه في تغطية الجسد، مع احترام للجمال تبدي في سفور الوجه والكفين كما علّمنا الرسول الكريم، فيما يسمّى الآن ب"الحجاب" الذي تتباين أشكاله المعاصرة وتتراوح في درجات الاحتشام، تبدو جميعها مقبولة ما دام مكنت المرأة توازنها بين الاحتشام والحضور، ولم تحل دون ممارستها لحياتها الطبيعية، تعليما وعملا، وترويحا. أما النقاب، ذلك اللباس الذي ترتديه الأنثى ليغطي جسدها كله، بما فيه الوجه والكفان، فلا يبدو منها شيء سوى عينين ترقبان العالم من حولها، فيعكس إخلالا جذريا في معادلة الاحتشام-الحضور؛ إذ تبدو من ترتديه مثل كتلة صماء، تخلو من معالم الشخصية الإنسانية، على نحو يحول دون مشاركتها الفعّالة في الحياة، إذ كيف تتم المشاركة بين طرفين أحدهما مختبئ، بما يعنيه الاختباء من خوف وغموض لدى طرف، يولد لدى الطرف الآخر رفضا وكراهية. ترى أولئك اللاتي ترتدين النقاب أنهن يزددن حشمة، ومن ثم فضيلة، وهن يؤسسن موقفهن هذا على قاعدة أن المزيد من كل قيمة هو منتهى الفضيلة، رغم أن كثيرا من الفضائل يحيلها التطرّف إلى رذائل؛ كالتطرف في الشجاعة اقترابا من التهور، والتطرف في الكرم باتجاه السرف الذي ينهي عنه الإسلام الصحيح. وهكذا يكون الاحتشام فضيلة فقط ما دام لم يجر على حضور المرأة، لدرجة أن يفنيها. الواقع أن زي المرأة كثيرا ما خضع للبيئة الاجتماعية بأكثر مما خضع للشرع الإسلامي؛ حيث يبقى النقاب عادة بدوية لا علاقة له بالإسلام، ترتديه النساء غالبا بضغط من أزواجهن أو آبائهن الأكثر محافظة، والأقل احتراما لشخصية المرأة أو ثقة فيها، والذين يودون تغطية رجعيتهم بغطاء ديني، ومنحها مبررا أخلاقيا، متجاهلين دوافع ثلاثة تنال من مشروعية هذا اللباس: أولها تاريخي، إذ لا يمكن فهم أي تشريع أخلاقي إلا في ضوء زمانه وبيئته، وإذا كان الإسلام قد اقتصر على فرض الحجاب في بيئة بدائية، حيث كانت النساء يخرجن لقضاء حاجتهن في بطن الصحراء (صحن مكة) في ليل معتم، لا حضور فيه لرموز دولة، أو قوات شرطة؛ حيث القدرة على ارتكاب الجريمة والهروب إلى الجبال قائمة بلا قيود، فكيف يفرض الناس على أنفسهم النقاب في ظل بيئة متمدينة، تخلو من كل تلك النواقص، يرتبط كل فرد فيها بالدولة، يعمل فيها، ويقتضي أجره منها، ولا يستطيع قضاء مصلحته إلا عبر أجهزتها، التي صارت تميزه عن غيره ب"رقم قومي" يحمل كل معالم شخصيته وتاريخ حياته، وتستطيع من خلاله أن تغلق أمامه كل مسالك الهروب في البر والبحر والجو. هذا الميل الرجعي، خضوعا للتقاليد على حساب الشرع، هو ما سعى قاسم أمين إلى تعريته في كتابه التأسيسي الأول "تحرير المرأة" في العام الأخير من القرن التاسع عشر، والمرأة الجديدة بعد سنوات خمسة من القرن العشرين، عندما أكّد حقوق المرأة في التعليم والعمل وسفور الوجه، ملتمسا صورة عصرية للمرأة المصرية سرعان ما جسّدها أو قاربها القرن العشرون؛ إذ تمكّنت المرأة من فرض حقها في السفور بعد ثورة 1919، وأخذت تمارس حقها في التعليم مع إنشاء أول مدرسة للبنات عام 1925، ثم ازدادت تحرّرا مع ثورة يوليو 1952، حتى تجاوزت قضية غطاء الوجه تماما، حينما ساد مشروع وطني تقدُّمي، قبل أن تهب موجة السبعينيات الأصولية، والتي عبّرت عن نفسها اجتماعيا في التأكيد أولا على الحجاب، ثم النقاب، على نحو يضاد منطق التاريخ، مثلما يعاكس روح الشرع. وثانيهما قانوني؛ فالنقاب إذ يؤدّي إلى طمس الشخصية وإفناء معالمها، إنما يضرّ المتعاملين معها في ظل عدم وضوح هويتها، وتنقل لنا الصحف وقنوات التلفزة وتتري إلى مسامعنا حكايات كثيرة عن رجال تنكّروا في النقاب كي يرتكبوا جرائم معينة، وكم حدثت احتكاكات في أماكن دراسة أو عمل نتيجة لإصرار حرّاس الأمن على التحقق من شخصية المرأة المنتقبة. أما الثالث فهو إنساني يتمثّل فيما تقتضيه الفطرة والشريعة الإسلامية من ضرورة إفشاء السلام، وتعميق روح الود بين الناس، حتى إن هناك حديثا نبويا يعتبر الابتسام في وجه الناس صدقة، فكيف تقوم بذلك امرأة ترتدي النقاب، وهل كان ممكنا أن تقوم المعلّمة بسلوكها الشائن لو كانت تتمتع بشخصية منبسطة، تتمتّع بروحانية الدين وأريحية الإسلام الفطرية؟ ثمة قاعدة يتفق حولها العقل والشرع تقول إن الخير الحقيقي هو ما إن قام به كل شخص ازداد خير العالم، فكيف لكل النساء أن يتعارفن، لو انتقبن، وكيف تسير بهن الحياة وهن مطموسات الشخصية، غائبات عن عالم يفترض أنهن حاضرات فيه، وما عدد الأطفال الذين يمكن التعدي على شعرهم أو هتك مشاعرهم؟ نشر بجريدة الأهرام