لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. كما قال مدحت محفوظ في ترجمته الرائعة لكتاب "السينما الخيالية" لبيتر نيكولز، فإن ترجمة عنوان هذا الفيلم عسيرة، لأنها تحتمل عدة معانٍ كلها صحيحة، من الوارد أن ترى هذا الفيلم في القنوات الفضائية اليوم، لكنه غير مشهور في مصر جدا برغم كونه من أهم أفلام الخيال العلمي في التاريخ، وقد ظهرت منذ أعوام قليلة النسخة التي تحمل تقطيع المخرج مع إعادة التصحيح الرقمي، فأدرك الناس أن هذا الفيلم عمل لا يشيخ.. قابلنا المخرج البريطاني العظيم ريدلي سكوت من قبل في فيلم "الغريب"، فدعنا نتذكر ما قلناه: إنه مخرج سينمائي قادم من عالم الإعلانات، يملك سيطرة كاملة على أدواته السينمائية، ويقدر أن يقول ما يريد بشكل بليغ، كما أنه قادر على أن يستولى على المُشاهد بسهولة تامة، حيث قدم سلسلة أفلام ناجحة يذكر منها "المصارع" و"مملكة السماء" و"سقوط الصقر الأسود" و"هانيبال" و"برومثيوس" و"بليد رانر".. عرف الناس اسم ريدلي سكوت أول مرة واهتموا به جدا، مع فيلم "الغريب" الذي قدمه عام 1979، هذا الفيلم قد أوجد عالمه الخاص من التأثيرات وطرق التصوير والإضاءة.. ولا شك أنه ترك آثارا عميقة في أفلام الخيال العلمي التالية، وخصوصا "ماتريكس".. الآن يثبت أنه ليس مجرد وافد على عالم الخيال العلمي، بل هو قادر على احتلال مكان مهم بين صانعيه..
ريدلي سكوت هو مخرج قادم من عالم الإعلانات عرض الفيلم عام 1982 عن رواية خيال علمي للكاتب فيليب ديك تنتمي إلى أدب السايبر بانك، وتحمل هذا العنوان الغريب "هل تحلم الأندرويد بشاه كهربائية؟". وهي رواية قاتمة تصور أرضا فقدت مواردها كلها تقريبا، وهاجر معظم سكانها.. التصوير كان عملية شاقة، وسوء التفاهم كان كاملا بين سكوت وبطل فيلمه هاريسون فورد، كما أن الطاقم الأمريكي لم يحب قط العمل مع مخرج بريطاني بدا لهم سمجا باردا.. لهذا اشتهر تصوير هذا الفيلم بأنه تمرين في كراهية الأجانب.. استخدم ريدلي سكوت أسلوبا بصريا يمت إلى الفيلم نوار (أو الأفلام السوداء)، وهي تلك الأفلام القديمة التي تحكي عن عوالم العصابات والمخبرين السريين الذين لا يقلون شراسة عن المجرمين أنفسهم.. عالم الدخان الكثيف المتصاعد من المجاري والأزقة الخلفية والمطر والظلال في كل مكان.. نفس الأسلوب العتيق المستخدم في أفلام همفري بوجارت، بل إنه يضيف تعليقا صوتيا Voice over بصوت هاريسون فورد كما يحدث في تلك الأفلام القديمة حرفيا.. استعاد ريدلي سكوت هذا الجو كله ليصور لنا لوس أنجيليس مدينة المستقبل عام 2019 (لاحظ أن هذا التاريخ لم يعد بعيدا)، طبعا مع لمساته اللونية المميزة.. لدى سكوت قدرة مذهلة على أن يريك أشياء مستقبلية عتيقة! شاهد الحي الصيني كما يبدو في الفيلم، بينما يقف هاريسون فورد يلتهم النودلز تحت المطر، لاحظ الجو العام. إضغط لمشاهدة الفيديو: هناك أندرويدات (الفارق بين الأندرويد والسايبورج والروبوت والربليكانت يهم عشاق الخيال العلمي، لكني لا أرى فارقا واضحا بصراحة) تمكنت من الهروب من المستعمرات التي تعمل فيها خارج الأرض، ومن المستحيل أن تميزها عن البشر.. لهذا تعهدت الحكومة لهاريسون فورد بالبحث عن هذه الأندرويدات وتدميرها.. وهي مهمة خطرة لأن هذه الكائنات قوية جدا.. إنها أحدث طراز تم صنعه ويدعى Nexus 6.. إن الأندرويدات عنيفة وقوية، لذا من الممنوع أن توجد على كوكب الأرض أصلا. هناك اختبار اسمه "فويت كامف" يتم فيه قياس اتساع الحدقة لدى سماع أسئلة غريبة.. هكذا يمكنك أن تفرق بين الأندرويدات والبشر العاديين لدى سماع أسئلة غريبة أو صادمة أو مقرفة، على غرار: أنت تشاهد التليفزيون، فجأة هناك دبور على ذراعك. هذا عيد ميلادك، هناك من يجلب لك هدية هي حافظة من جلد الحملان. أنت تشاهد مسرحية، على المسرح يجلس الأبطال يأكلون وجبة من المحار النيئ.
إضغط لمشاهدة الفيديو: في بداية الفيلم يتم استدعاء ديكارد (هاريسون فورد) الذي يعمل بليد رانر (وهو مصطلح نستنتج معناه من القصة)، للقبض على ستة أندرويدات هربت على سفينة مخطوفة يقودها من يدعى "بريس".. مطلوب منه تصفيتها.. في شركة "تيرل" التي أنتجت هذه الأندرويد قديما، يقابل الحسناء شون يانج التي يعرف أنها ربليكانت.. وهي نفسها لا تصدق ذلك لأنهم زودوها بذاكرة صناعية. إضغط لمشاهدة الفيديو: هي لا تعرف أن ذكرياتها هذه ذكريات إنسان حقيقي غيرها.. يذكر من شاهدوا الفيلم دوري داريل هانا وروتجر هاور.. وهما من الأندرويد فائقي السرعة والقوة.. الثاني ظهر في أفلام روكي، وهو يبدو كائنا فضائيا فعلا بملامحه الغريبة وجسده العملاق ووجهه الخالي من التعبير. شاهد هنا مشهد دخول البطل ديكارد قاعة مليئة بالدمي وانقضاض داريل هانا عليه فجأة، إنه مشهد مخيف فعلا. إضغط لمشاهدة الفيديو: في النهاية يدور صراع عنيف بين هاريسون فورد والأندرويد روتجر هاور فوق سطح بناية برادبوري، وهي بناية شهيرة جدا، تم تصوير أفلام عديدة فوقها، وهو صراع يكون فورد فيه هو الطرف الضعيف، والضعيف جدا.. لكن في اللحظة الأخيرة يتركه روتجر يعيش، وهذا قد خضع لتفسيرات عديدة، منها تفسير سكوت نفسه: هذه تحية من محارب شريف لمحارب شريف آخر..
إضغط لمشاهدة الفيديو: يعود فورد إلى شقته ليجد الأندرويد راشيل هناك.. وينطلق معها نحو أفق يتوهج بشمس سريالية غامضة لا نعرف إن كانت تعني الخير أم الشر لهما.. قليل جدا من المشاهدين فهم أن فورد هو ربليكانت آخر، وهو ما قاله سكوت بعد ذلك بأعوام، والسبب هو جو الغموض العام المخيم على الفيلم، مما يجعله بحاجة إلى أكثر من مشاهدة.. لم يلقَ الفيلم نجاحا كبيرا في البداية، لكن مع الزمن أدرك الناس قيمته وروعته.. واليوم صار يحتل مكانه كواحد من أهم أفلام الخيال العلمي مثله مثل "سولاريس" و"أوديسة فضائية".. ومن الأشياء الطريفة كذلك إشاعة تقول إن الفيلم جلب النحس لكل شركة تم الإعلان عنها فيه.. هكذا انتهت شركة "أتاري" التي ظهر إعلان لها في الفيلم وشركات أخرى كثيرة. إن "بيلد رانر" فيلم جدير بأن يوجد في الحافظة الزرقاء، وأن تشاهده أكثر من مرة.