منذ ظهر البشر في الوجود، ومنذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، خلق معه الخلاف والاختلاف.. إبليس اعترض على خلق آدم، باعتبار أنه سيفسد الأرض ولم يقبل بالسجود له، عندما أمره خالقهما عزَّ وجلَّ بهذا.. آدم أكل من الشجرة المحرَّمة.. قابيل اختلف مع هابيل.. الناس اختلفوا في فكرهم.. في منظورهم.. في معتقداتهم.. في سبل حياتهم.. سمة البشر إذن هي الاختلاف.. والعجيب أنه، وعلى الرغم من أن هذه حقيقة لا تقبل الجدل، ومن أن الناس جميعاً لم يتفقوا يوماً واحداً، حتى على وجود الله سبحانه وتعالى نفسه، فما زال هناك من يغضب ويثور للاختلاف، ومن يريد أن يخالف سنة الكون، ويدفع الناس كلها إلى فكر واحد، ويغضب ويثور، إذا لم يحدث هذا.. وهو لم يحدث.. ولن يحدث.. ويستحيل أن يحدث.. وهذا هو ما يوصف حقاً بالحماقة!.. أن يحارب إنسان في استماتة؛ لتغيير خلق الله عزَّ وجلَّ، ثم يدَّعى طوال حربه هذه، أنه إنما يفعل هذا، من أجل الله سبحانه وتعالى.. لست أنكر على كل إنسان المحاولة.. ولكن بالحكمة.. والموعظة الحسنة.. إذا أردت أن يتبعك الناس، فعليك أن تجذبهم إليك أولا.. عليك أن تكون قدوة لهم.. قدوة هادئة.. مؤمنة.. واثقة.. حكيمة.. ولقد حذرك الله سبحانه وتعالى نفسه، من أنك لو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضّوا من حولك.. فانظر ماذا تفعل حقاً!!! إنك تخالف الأمر الإلهي مباشرة.. إنك فظ.. غليظ القلب.. غاضب.. ثائر.. تفتقر إلى الحكمة والموعظة الحسنة.. ثم تستشيط غضباً؛ لأن أحداً لا يتبعك.. وهذا هو الغضب الأعمى.. بكل معنى الكلمة.. غضب يعميك حتى عن الحقائق الواضحة، التي أمرك بها خالق الكون العظيم، ولم يجعلها خياراً لك.. أمرك بها أمراً مباشراً.. وعصيته.. ثم طمعت في مكافأته.. طمعت في أن يكافئك على الغضب الذي نهاك عنه، وعلى الفظاظة التي حذرك منها، وعلى رفضك للحكمة، وابتعادك عن الموعظة الحسنة!!!.. طمعت في أن يكافئك خالقك عزَّ وجلَّ على معصيتك له.. ألا ترى أية حماقة هذه؟! إن أدركت كم هي حماقة، فعليك أن تعيد النظر فيما تفعل.. أما لو لم تدرك، فتلك حماقة أكبر.. ستكون عندئذ ذلك الأحمق، الذي لا يدرك أنه أحمق، والجاهل الذي لا يدرك أنه جاهل.. وكلاهما تم تحذيرنا منه.. ولو رفضت مجرَّد مناقشة هذا، ستكون كالذي إذا قيل له اتقِ الله أخذته العزة بالإثم، والعياذ بالله القدير.. وستغضب.. وتثور.. وتلعن.. وتتشنج.. ويعود الحديث إلى بدايته.. إلى الغضب.. ومشكلة الغضب أنه ليس نابعاً دوماً من مصدره الحقيقي، بل إنه أشبه بطاقة مكبوتة داخل بالون كبير، تم إغلاق فوهته الأصلية بشيء ما، ربما الخوف، أو العجز، أو الحاجة، فتفجرت الطاقة من أضعف نقطة فيه.. أياً كانت.. وهذا يعني أن الغضب الذي يتفجر في اتجاه ما، قد لا يكون نابعاً بالفعل من هذا الاتجاه، بل ربما يأتي من منبع آخر تماماً، ولكنه يتفجّر في أضعف نقطة.. وهذه النقطة تختلف، من إنسان إلى آخر.. بعض الناس غاضبون جداً؛ لأن الآخرين لا يدينون بما يدينون هم به، والتحليل النفسي لهذا عجيب ويخالف تماماً كل ما تتصورونه.. فالتحليل النفسي يقول: إن أكثر الناس خطيئة، في مرحلة ما، هم أكثرهم تشدّداً وغضباً في مرحلة تالية؛ لأن الشعور الكبير بالذنب في أعماقهم، يجعلهم يبالغون كثيراً في دينهم، أملاً في أن يغفر لهم الله سبحانه وتعالى ما تقدم من ذنوبهم.. ربما لأنهم لا يؤمنون بما يكفي، ليدركوا، أو يؤمنوا، بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.. لو آمنوا بهذا؛ لأدركوا أن التوبة الخالصة النصوح، تغفر كل ما قبلها، وتبدأ مع الإنسان بداية جديدة.. لو آمن لأدرك أن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج منه إلى إثبات متطَّرًف حادّ لتوبته.. لأنه مطلع على سريرته، ومدرك لخيلته، ويحاسبه على ما يخفيه في أعمق أعماقه.. لو آمن بهذا، لهدأت نفسه، واطمئن قلبه بالإيمان، وعمر بالحب، ولما صار أبداً فظاً غليظ القلب ولما امتلأت نفسه بالغضب.. بل بالرضا.. ولما ثار على من يدينون بغير دينه، بل أشفق عليهم، ودعا لهم بالهداية والعفو.. لو آمن، وصدق إيمانه عمل، لما كان ما يحدث حولنا.. لما كان الغضب.. والثورة.. والعنف.. والشر.. ولما كان كل هذا باسم دين، هو من كل سلبيات الدنيا بريء.. فما أصابنا من خير فمن الله سبحانه وتعالى.. وما أصابنا من شر، فمن أنفسنا.. حتماً.. وما زال للحديث بقية...