في كل الحروب الحديثة لم يعد العدو يكتفي بالقتال على الجبهة، مهما كانت قوته، وإنما صار يبذل كل الجهد لتدمير الجبهة الداخلية؛ إيمانا منه بأن تدمير الكيان الداخلي للدولة هو بداية هزيمتها، حتى على المقياس العسكري. والسلاح الأقوى -في حرب الجبهة الداخلية- هو شق وحدة الصف.. وإشاعة الشك.. والفرقة.. والقضايا الداخلية الراكدة.. ودفع الصراعات إلى الذروة.. وإشاعة الفوضى.. وفي سبيل هذا، يدسّ العدو دوما عيونه وجواسيسه في الجبهة الداخلية، ويدفعهم إلى استثارة الناس، وحقنهم بما يُسمّى ب"الشائعات المتفجّرة".. ثم يدفع جواسيسه إلى القيام بعمليات تخريب.. وتدمير.. وهو يستغلّ دوما حماس الشرفاء؛ لدفعهم إلى القيام بأمور مدمّرة.. ودون حتى أن يُدركوا هذا.. والعدو يدرك دوما أن الجيش -أي جيش- لا يمكن أن يواجهه على الجبهة في قوة، لو أن جبهته الداخلية مهلهلة.. ولو قرأ أي شخص تاريخ الحروب، لوجد أنها سياسة متبعة دوما.. وناجحة دوما.. فالجبهتان الداخلية والخارجية، هما وجهان لعملة واحدة، فإذا ما انهار وجه منها، سقط بعد الوجه الآخر.. والوسيلة الأمثل لهدم الجبهة الداخلية، هي فقدان الثقة في كل مؤسسات الدولة؛ خاصة المؤسستين الأهم فيها.. الأمن الداخلي.. والجيش.. طالعوا شبكات الإنترنت، وتاريخ الحروب، ونتائج هدم الجبهة الداخلية، ثم.. تعالوا نحسبها.. في أيام الثورة الأولى، انطلق شعار، من الثوار أنفسهم.. شعار الجيش والشعب يد واحدة.. وفي اليوم التالي مباشرة، لسقوط النظام السابق، بدأ الهجوم على الجيش.. وبدأت معاداة الشعب العنيفة للشرطة.. ولكي يتم تغليف مهاجمة الجيش بالسكر، كأي دواء مُر، خرجت عبارة أنيقة كالمعتاد في منطوقها، غير منطقية على الإطلاق في مضمونها.. عبارة تقول: إن الهجوم على المجلس العسكري، وليس على الجيش.. وابتلع الناس الطعم.. والعجيب أن أحدا لم يسأل نفسه، من اتخذ القرار بالوقوف مع الثورة بالضبط؟! أهو المجند "علي".. أم الرقيب "فتحي".. أم هو الصول "محمد"؟! الجيش الذي هتف الثوار باسمه، منذ خروجه إلى الشارع، والذي لم يفعل ما فعله الجيش الليبي، ولم يرتكب ما ارتكبه الجيش السوري، فعل هذا بأوامر من قيادته الأعلى.. من المجلس العسكري.. المجلس الذي بدأ الكل الهجوم عليه تدريجيا، عقب نجاح الثورة مباشرة.. وبدأ البعض يتحدّث عن أن المجلس العسكري لم يكن يملك خيارا آخر، على الرغم من أنه كان يملك هذا الخيار، عندما فصل القيادة عن رئيس الدولة، وأصدر بيانه رقم واحد، قبل حتى أن يحسم أمر الثورة.. ولكنها الشائعة الزاحفة.. والشائعة الزاحفة هي شائعة يتمّ ترديدها على نحو ملح متصل؛ بحيث يقتنع الناس بها ويرددونها، حتى تبدو بالنسبة إليهم هي الحقيقة، مهما تعارضت مع المنطق.. شائعة تزحف على المجتمع.. وعلى العقول.. وعلى الأفكار.. ومع مرور الوقت، يصبح من المستحيل أن تقنع الناس بأنها شائعة.. وبأنها جزء من حرب الجبهة الداخلية.. ولكي تؤتي الشائعة ثمارها، يتم غزلها بشائعات متفجرة تنطلق كل حين وآخر؛ لتُؤيّد الشائعة الزاحفة.. ولتقنع الناس أكثر وأكثر بصحتها.. ولأن الناس، عقب الثورات، تكون دوما في حالة اندفاعية انفعالية، فهي تميل دوما إلى تصديق الشائعات الزاحفة، وتتفاعل بشدة مع الشائعات المتفجرة.. والمناخ دوما يناسب هذا.. فالناس ما زالت غاضبة.. وما زالت خائفة.. وما زالت متشككة.. وقاعدة الشائعات الأولى، هي أن الناس مستعدة لتصديق الكذب، مهما بدا غير منطقي؛ لو أنه صادف هواها.. والناس، نفس الناس، ترفض وبشدة تصديق الصدق، مهما كان واضحا، لو أنه لم يناسب هواها.. والشائعة الزاحفة لا تطلقها مجموعة على المقهى.. إنها لعبة أجهزة مخابرات كبيرة.. لعبة مدروسة.. مرتبة.. مخططة.. ومتقنة.. لعبة تعتمد على ما يصادف هوى الناس.. وما يدغدغ تلك المشاعر، المختزنة في قلوبهم، طوال عقود.. ولو سألت أي شخص، عما يدفعه لتصديق الشائعة، لاستنكر بشدة كونها شائعة، ولسخر من الفكرة أيضا.. وهذا على الرغم من أن المنطق العادي، يقول: إنه من المستحيل أن نكون محاطين بعالم من الملائكة، الذين يريدون لنا الخير دوما.. ومن المستحيل ألا يكون للثورة أعداء.. ومن المستحيل أكثر، ألا يكون هناك طرف ثالث، يسعى لتخريب الثورة.. وليس من الضرورة أن يتم تحديد اسم ذلك الطرف الثالث؛ لأنه أيضا ليس مجموعة تجلس على المقهى.. ودعونا نحسبها.. لا أحد لديه شك في أنه هناك تجارة مخدرات في مصر، على الرغم من أن أحدا لا يستطيع أن يذكر اسم تجار المخدرات.. هذا لأن وجود المخدرات في الشارع، هو دليل على وجود تجارة مخدرات، سوى عرفنا أسماء التجار أم لا.. والأمر نفسه ينطبق على نظرية الطرف الثالث.. إشاعة الفوضى والتمرد، يشفان عن وجود طرف ثالث، وراء كل هذا.. احسبوها، وسلوا أنفسكم.. أهذا منطقي أم لا؟! هل العالم كله يسعى لإنجاح ثورتنا، أم إنه هناك دول وجهات، تتعارض الثورة مع مصالحها وأمنها القومي؟! سلوا أنفسكم.. واحسبوها.. فالمرحلة التي تمر بها مصر الآن، ليس مرحلة يصلح فيها العناد، أو تنفع فيها المكابرة.. إنها مرحلة حرجة.. إلى أقصى حد... مرحلة، يتحتّم أن يكون للعقل فيها السلاح الأكبر، وإلا فنهايتها لن تكون في صالحنا جميعا.. سلوا أنفسكم، وتفكّروا.. هو إحنا -فعلا- بنحسبها؟!