ما أقسى أن تفتتح يومك بخبر وفاة عم جلال، بدلا من أن تبدأه بضحكة نابعة من سطور مقاله اليومي؛ حيث ينسج من المآسي قصة طريفة في عمود صغير، بإيقاع رشيق متواثب يجعلك تلهث مع النهاية، وكأنك كنت تقرأ كتابا لهيكل في نص ساعة. ارتبط الضحك عنده بحياته، كلما ضحكنا استمر وازداد تألقا، وحين قرر أن يموت ألقى بكلماته الأخيرة لعلنا نضحك فيستمر؛ لكنها كانت كلمات موجعات مبكيات قتلتنا، فمات.
تأمّل معي صور ندواته وتلك اللقطات المختلسة لوجوه شابة تنظر نحوه بانبهار، ثم استخرج لي -إذا سمحت- وجها لا يضحك بشدة أو حتى يبتسم، استخرج وجها عابسا أو جبهة مقطبة أو شفاه تحدبت لأعلى؛ لكنك أبدا لن تجد هذا الوجه في هذه الصور، فقط الآن يمكنك استخراجه بسهولة في كل مكان يجمع محبيه.
"اللقا نصيب" هكذا كنت أسمع وأهز رأسي استخفافا، وأقول: "أوكي.. فليكن"، الآن أدرك المعنى ويدركني الندم، فقد كنت دائما أسعى للقاء العم جلال في أي ندوة أو حفل لتوقيع أحد كتبه القليلة، فأصل متأخرا ويخبرني الحضور: "ده كان هنا من نص ساعة"، فأهز رأسي من جديد وأمضي مغمغما: "اللقا نصيب.. أوكي فليكن"، وأظل على هذا الحال حتى أدركني اليوم الذي عرفت فيه أنني لن ألقاه إلا في صلاة جنازته؛ وحتى هذه الصلاة لن أحضرها لتباعد المسافات، ألا سحقا لتباعد المسافات.
كما عَرِفه الجميع عَرِفته، عبر صفحات الدستور القديمة، وخلال صفحة كاملة كان يكتبها وحده، يختلط فيها الضحك بالتفكر بالحكمة في مزيج جلالي عامري لا يوازيه فيه أحد، فأنساب مع جمله غير المترابطة موضوعا المتشابكة ضحكا وألما، والمتلاحمة في معانيها وسخريتها ولذاعتها، فأستغرب كيف يكتب بهذه السلاسة المعقدة التي يقف منها السهل الممتنع موقف المتفرج المتعجب؟!
أشاهده الآن في صور خاصة تجمعه ببعض أصدقائي فأحسدهم، تجالسونه وتصافحونه وتتحدثون معه، وربما أضحككم بإيفيهاته المعتادة، بينما نتحسر على اللحظات التي كان فيها بيننا وأهملناه فيها!
يتقافز بداخلي السؤال الأزلي حينما أقرأ نبأ رحيله: لماذا لا يموت أولاد ال(....)؟ وضع مكان النقاط ما تشاء.. لكنني حين أسترجع ابتسامته الصافية وضحكته النابعة من أعماق سحيقة، أعرف السبب.
تأمل معي صورته الأخيرة من تظاهرة الإسكندرية الملوثة بتوفيق عكاشة وزبانيته، وانظر في تعبيرات وجهه الباكية الملتاعة وأنت ستعرف السبب.
يموت الأنقياء لأن لهم قلبا حيا لا يزال يتحرك ويشعر ويتألم؛ بل يكون ألمه أشدا، ثم تتراكم عليه الأحزان والأهوال وينوء بحمله الثقيل فيصبو إلى الراحة، حينها يترك مكانه بقعة من الضياء التي كانت يوما محل قلبه النقي.
بينما يظل أولاد ال(....) أحياء بقلوبهم المتبلدة ووجوههم الكالحة المتجمدة وضمائرهم المتحجرة، لا يشعرون بالزمن لما هم فيه من سبات وغفلة، فيطول مكوثهم في الأرض ويكثر فسادهم، فتسود أماكنهم وتمتص الحيوات من حولهم للمكان الذي يقبع فيه القلب البليد ليزداد بلادة.
يموت الأنقياء أو يحبسون ظلما، فأجرع الحزن لوفاة العم جلال، وأراقب بعجز صديقي الصغير عبد الرحمن الموافي خلف القضبان مظلوما لكنه صلبا، وأتساءل مجددا: "لماذا لا يموت أولاد ال(...)؟! ألا سحقا لهم.
عم جلال لم يكن مجرد كاتب ساخر يكتب فيضحكنا، ويفتح فاه ليمطرنا بإيفيهاته فقط، فهو المقاتل الذي عبر القناة في السادس من أكتوبر ليسترجع أرضا ويحفظ عرضا وينتصر.. أكاد أراه يصوب بندقيته نحو جندي إسرائيلي ثم يلقي عليه بكلمتين ساخرتين، فيموت الجندي ضحكا، ويوفر العم جلال رصاصاته ليوم آخر.
ستون عاما قضاها على أرض مصر، بدأها عام 1952 طفلا ينمو ويشب ويتعلم الكلام والنطق، يتعلم معاني الخطأ والصواب، والحلال والحرام، والشرف، والكرامة، والعزة، والرجولة، والنخوة، والقوة.. يصبح مراهقا ثم يصير شابا يلتحم مع قوات العدو وينتصر، ثم تحبطه المحبطات المبكيات في مصر فيحتمي بالسخرية ويضحك، ليحفظ قلبه من التبلد، وحين يصل لمشهد الذروة يلقي بكلمة تستقر في قلبه بموضع القتل ثم يرحل.
تأمل معي إذن الكلمات السابقة واقرأها على ضوء مستجدات أخرى، مبدلا العسكر بعم جلال، وحكمهم الذي جاء معه طفل ينمو ويشب ويحكم ويترعرع في ميادين الحرب والسياسة، ثم يصير مراهقا فيصطدم بالوطن في الجدار محطما زجاجه الأمامي، ثم يصبح شابا يلتحم مع العدو وينتصر، بعدها يسكر من خمر النصر حتى تفوح رائحتها منه، ويظل يترنح مرة أخرى والسيارة ترتطم بجانبي الطريق يمينا ويسارا؛ حتى تكاد تصبح خردة تسير بالمعونة.. فهل يأتيهم مشهد الذروة كما أتى لعم جلال في نفس العام، أم تفترق المصائر ويبقى العساكر؟
أشاهده الآن على الإنترنت يتحدث في هذا البرنامج وذاك اللقاء فأضحك لكلماته وأدمع لفراقه، وبعين الخيال أرى "الباتعة الكيكي" تولول وتكاد تشق قميصها، فيلكزها زوجها "التيحي" مُذكِرا إياها بأنه قميصها الوحيد، فتصمت وهي تتابع النعش يبعتد، ويهمسان معا: "الله يرحمك يا عم جلال".