"بيع الثورة بيع.. يا محمد يا بديع".. "العسكر والإخوان.. اتنين مالهومش أمان".. "دي ثورة مش حفلة".. الإعلام وفساده.. تلك هي نكبة ثورتنا في مصر.. ذلك الإعلام الذي لا يعرف للمهنية طريقًا.. أصبح لقمة عيشه في إشعال النار بين أي فصيل وآخر.. وحتى أدخل مباشرة في الموضوع، ودون مقدمات طويلة، فأنا هنا بصدد ما يدور الآن على "مصاطب" بعض برامج "التوك شو" حول ما حدث منذ الأربعاء 25 يناير وحتى الجمعة 28 يناير 2012.. سأحاول قدر الإمكان أن أقصّ ما رأيته بعيني في تلك الأيام أثناء وجودي في ميدان التحرير، وللقارئ الحكم في النهاية وفق ما يقتنع به من رأي.. مساء الثلاثاء 24 يناير 2012.. اتفقت مع بعض الشباب على الذهاب إلى ميدان التحرير؛ لتأمين المنشآت الحيوية المحيطة بالميدان؛ تحسبًا من وقوع أية أعمال عدائية أو بلطجة كالتي وقعت في أحداث محيط مجلس الوزراء وتم فيها حرق المجمع العلمي.. ذهبنا إلى الميدان مساء الثلاثاء؛ لنبيت هناك حتى انتهاء فعاليات يوم الخامس والعشرين الذكرى الأولى لبداية ثورتنا التي ما زالت مستمرة.. أول ما دخلت إلى الميدان وجدت مجموعات من الشباب تقف أمام منصة، وتهتف: "مش عاوزين منصة.. مش عاوزين منصة"، سألت منصة من هذه الذين يهتفون ضدها؟ قالوا إنها منصة الإخوان المسلمين، قلت: ومن هؤلاء الذين يهتفون ضدها؟ قالوا: إنهم شباب 6 إبريل.. تحدثت إلى أحدهم سائلاً: أليست لكم منصة؟ قال لي: "لا عندنا 3 منصات، اتنين قدام المجمع، وواحدة عند هارديز.. بس إحنا مش عاوزين منصة للإخوان.. لأنهم عاوزين يحتفلوا".. قلت له: "يا عم فكك منهم وخلي اللي عاوز يحتفل يحتفل.. وبكرة نشوف الناس هتقف قدام منصة مين".. قال: "لأ هنهدّها فوق دماغهم"!! وبدأت المناوشات بإلقاء الحجارة والمولوتوف ليل الأربعاء.. وتصدى لذلك شباب الإخوان بتكوين دروع بشرية.. وما زاد الأمر سوءا.. وزادني أنا غيظا.. أن رفع الإخوان لافتة أعلى منصتهم كُتب عليها "العيد الأول للثورة".. قلت في نفسي: عيد؟!! أي عيد هذا؟!! ولكن تذكّرت أنني موجود في الميدان ضمن لجنة شعبية؛ لحماية الميدان من أي أعمال بلطجة.. ويجب عليّ أن ألتزم الحياد... انقضت الليلة بمناوشات تصدى لها الإخوان بشبابهم.. وظلت المنصة راسخة الأقدام أمام تمثال عمر مكرم بميدان التحرير.. صباح الأربعاء 25 يناير.. بدأت منصة الإخوان في تمام الساعة السابعة والنصف صباحًا بالقرآن الكريم.. تبعها نشيد "أنا بحبك يا بلادي".. ثم كانت المفاجأة.. هتف الإخوان من أعلى منصتهم: "يسقط يسقط حكم العسكر".. وردد وراءهم المئات.. تبعتها هتافات "قول اتكلم السلطة لازم تتسلم".. "مطالبنا هي هي.. عيش حرية عدالة اجتماعية".. وكان الأمر الغريب حقًا.. أن مجموعة من الشباب المناهض للمنصة وقف أمامها عند "الصينية"، وكان يرفع علامات الرفض لهذه الهتافات.. بعدها تكلمت والدة مينا دانيا من أعلى منصة الإخوان لتحكي كيف استشهد.. ليهتف الإخوان من أعلى المنصة "هنجيب حقهم يا نموت زيهم".. الذي أذهلني في هذه اللحظة... أن مجموعة الشباب المناهض للمنصة كان يرفع الأحذية حتى في وجه والدة مينا دانيال، وما تبعها من آباء وأمهات الشهداء الذين تحدثوا من أعلى هذه المنصة!! وقف المتحدث من أعلى هذه المنصة.. واستنكر رفع الأحذية في وجه المنصة أثناء حديث أهالي الشهداء.. قائلاً: "نحن جئنا لنحيي ذكرى الثورة وشهدائها.. ونطالب بتسليم السلطة إلى مدنيين.. ولكن نختلف مع البعض في آلية التسليم.. فهناك من يرى أنها يجب أن تسلّم الآن، ونحن نرى أن تسلّم في موعد أقصاه 30 يونيو، وبالتالي فهناك مساحة واسعة من الاتفاق بيننا وبين الآخرين في أنه يجب أن يسقط حكم العسكر"، ثم هتف بذلك وردد وراءه المئات.. وكان الملاحظ أن أغلب من زار الميدان في ذلك اليوم من الناس العاديين (أي غير المنتمين إلى أي تيار سياسي) كان يقف أمام منصة الإخوان. ولكن ذلك لم يغير شيئًا من الغضب الذي كان بداخلي من عبارة "العيد الأول" المكتوبة على اللافتة المرفوعة أعلى هذه المنصة.. وقلت لو أن أحدًا حكيمًا من الإخوان يلغي هذه العبارة، ستكون هذه المنصة جامعة للميدان.. ولا يختلف عليها أحد، ولكن ذلك لم يحدث.. مرّ اليوم بسلام إلا من مناوشات قليلة تم السيطرة عليها.. ولم يُقذف حجر واحد تجاه أي منشأة حول الميدان.. وانصرفت لأستريح، وأعود يوم الجمعة وأقوم في الميدان بنفس الدور..
صباح الجمعة 27 يناير 2012.. أول ما دخلت إلى الميدان انطلقت نحو منصة الإخوان لعلّي أرى ما يشفي صدري بأن أحدًا منهم قام بتمزيق تلك اللافتة المكتوب عليها "العيد الأول"؛ فكل الهتافات التي تذاع من المنصة لا تنطبق مع هذه العبارة المرفوعة فوقها.. لكن مع الأسف وجدتها كما هي.. ولاحظت في ذلك اليوم وجود ست منصات غير منصة الإخوان.. وكلها –بما فيهم منصة الإخوان- تردد هتاف "يسقط يسقط حكم العسكر"، وكلها تذيع أناشيد الثورة وأناشيد وطنية.. بل إن منصة الإخوان استضافت عددًا من ممثلي شباب 6 إبريل، وقاموا بتلاوة بيان الحركة الذي طالب بالتسليم الفوري للسلطة، وعقّب أحد المتحدثين على المنصة قائلاً: "إن هذا الرأي يعبر عن رأي الحركة، وإيمانًا منا بدورهم قمنا بعرضه على هذه المنصة من خلال ممثلي الحركة بأنفسهم".. وعند تمام الرابعة عصرًا عزمت على الانصراف من الميدان.. وتحديدًا من عن مدخل كوبري قصر النيل.. وأثناء ذلك وجدت أعدادًا ليست بالقليلة تهتف: "بيع الثورة بيع يا محمد يا بديع".. "العسكر والإخوان.. اتنين مالهومش أمان".. "دي ثورة مش حفلة"... ويا ليت الهتافات وقفت عند ذلك؛ لأن تلك الهتافات هي في نهاية الأمر تعبير عن رأي.. ولا يحق لأحد أن يعترض عليها من باب حرية إبداء الرأي.. ولكن الأمر تعدّى هذه الهتافات إلى ما هو أسوأ!! رجعت إلى الميدان بسرعة.. وقلت إن الخطر قد بدأ.. ربنا يستر.. سألت أحدهم: ليه بس الهتافات دي.. قال لي: الإخوان باعوا الثورة.. قلت له: ليه.. قال لي: دول كاتبين العيد الأول.. رددت عليه: بس دول بيهتفوا زيكم يسقط حكم العسكر.. وكل أهالي الشهداء اتكلموا من منصتهم من يوم 25 يناير.. هما بس مختلفين معاكم في توقيت تسليم السلطة.. فردّ مستنكرًا: يا عم دول باعوا الثورة.. ما رأيته بعيني وسط هؤلاء.. ** أشكال غريبة ليست من شباب الثورة الذين أعرفهم.. ولا حتى من شباب 6 إبريل الذين نراهم في وسائل الإعلام.. ** يرددون عبارات نابية للغاية في هتافاتهم بما لم نعتده من شباب الثورة المعروفين بالخلق الرفيع.. ** عندما وصلوا عند منصة الإخوان -التي بدأت في هذا التوقيت في إذاعة القرآن الكريم- رفعوا الأحذية نحو المنصة، وأشاروا إليها بإشارات خادشة.. توجّهت نحو أحد الإخوان وسألته: "مشغلين ليه قرآن دلوقتي؟ ماينفعش كده" قال لي: " والله ده علشان نقول إن احنا مش هنرد الإساءة لحد، وهيكون ردّنا هو القرآن".. ** رأيت شابًا ضرب بقدمه أحد شباب الإخوان الذين كانوا في هذا التوقيت يشكّلون دروعًا بشرية حول منصّتهم، وما كان من هذا الشاب إلا أن أومأ برأسه وابتسم. ** وأكثر من استفزني أن امرأة في الأربعينات من عمرها قامت بالبصق في وجه أحد شباب الإخوان، وبدت عليه علامات الغضب في البداية ثم ابتسم، وربّت أحد زملائه على كتفيه مبديًا تعاطفه معه. ** وأكثر ما هالني أن هؤلاء كانوا يهتفون "يسقط يسقط مجلس الشعب".. نعم كانوا يهتفون بأن يسقط المجلس الذي عانينا حتى يُنتخب.. حتى وإن كان منا من لا يرضى عن أغلبيته، إلا أنها في النهاية اختيار الشعب وعلينا احترامه. بدأ الكلام النابي والألفاظ الخادشة ينتشر في هتاف هؤلاء المحسوبين على الثوار أو على حركة 6 إبريل.. وعندها رفعت منصة الإخوان أذان المغرب وصلوا المغرب والعشاء.. وبدأوا يتحدثون أنهم مع مطالب الثورة، ولكنهم يختلفون فقط حول موعد تسليم السلطة.. أحدهم كان يرتدي عباءة الأزهر وجّه كلامه من أعلى المنصة لهؤلاء قائلا: أحذيتكم التي ترفعونها فوق رأسي.. ولكن تلك الإشارات النابية التي توجّهونها لنا ليست بأخلاق الثوار".. وصعد الدكتور محمد البلتاجي -أحد أبرز قيادات حزب الحرية والعدالة- ووضع لافتة تغطي كلمة "العيد الأول" المرفوعة فوق المنصة، وردّد هتاف "دي ثورة مش حفلة"، إلا أن هؤلاء أصروا على رفع الأحذية، وترديد هتافات أقلّ ما توصف به أنها "سوء أدب".. ولا يجوز ذكرها، ومن يريد أن يعرفها فعليه أن يعود إلى فيديوهات يوتيوب ويشاهدها.. لكن أحذّر من أنها خادشة للحياء للغاية.. انتشر عدد من الإخوان وسط هؤلاء الشباب وناقشوهم.. واقتنع بعضهم بوجهة نظر الإخوان، وأصر آخرون على أنهم خونة وعملاء وباعوا الثورة.. وفي هذا التوقيت بدأ عدد من الإخوان يتوافدون على الميدان ليصبحوا الدروع البشرية حول المنصة.. وعندها بدأوا في تفكيكها ثم انصرفوا من الميدان.. حاولت فيما سبق أن أروي ما شاهدته.. دون إبداء رأي.. إلا عندما كتبت "سوء أدب".. ولا أعتقد أن هناك من يرى أن أي هتاف يحمل عبارات نابية يوصف بأنه حسن خلق. ولكن: ** أخطأ الإخوان في رأيي عندما رفعوا لافتة كُتب عليها "العيد الأول للثورة"؛ لأن الثورة ما زالت مستمرة، لكن هو في النهاية رأي لهم كان ملخصه: "أنه عندما أعلن مبارك تنحيه عن السلطة أقام الثوار بمختلف أطيافهم الاحتفالات في ميدان التحرير، وفي رأس السنة أقامت حركة 6 إبريل وغيرها من الحركات والائتلافات الثورية احتفالاً مهيبًا في ميدان التحرير أطلقوا فيه "الشماريخ"، وقاموا بالاحتفال بالميدان بالأغاني وغيرها حتى الصباح، ولم يعترض حينها أحد، ويقول كيف يقيمون تلك الاحتفالات وما زال حق الشهيد لم يأتِ؟ فما المانع من أن يحتفل الإخوان في 25 يناير"، كان ذلك رأي الإخوان الذي أعلنوه من فوق منصتهم ليبرروا فيه كلمة "العيد الأول" التي يرفعونها، وفي النهاية علينا احترام ذلك الرأي ما دام الإخوان لم يحجروا برأيهم على أي رأي آخر يرى أنه ليس عيدا، وما داموا لم يغلقوا الميدان في وجه أحد، وما دامت كانت هناك منصّات "ست منصّات" أخرى تعبّر عن وجهة النظر المضادة للإخوان. ** هؤلاء الذي كانت في أعينهم علامات الشر، ووجوهم ليست بوجوه ثوار، وألفاظهم ليست بأخلاق الثوار، ما هم إلا فئة ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يصدّق فيها الكاذب ويكذّب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة". وختامًا.. ما زال هناك من يرى أن الثورة "سيرك" يجب أن يكون منصوبًا بصورة دائمة في ميدان التحرير وأمام ماسبيرو.. ليلهو من خلاله بعض السذّج الذين يُستدرجون إما للعب في هذا السيرك، وإما لمشاهدة بهلوان يرقص ويتمايل ويهتف.. وهناك من يرى أن الثورة هي إسقاط نظام وبناء آخر جديد.. بدأ أوله بمجلس شعب رأى المواطنون من انتخبوه جالسًا على مقعده تحت قبته، وما زال البناء مستمرا.. وعلى المواطن المصري أن يختار بين أن يشاهد السيرك المنصوب ويلهو فيه.. أو يشمر عن ساعديه، ويشترك في بناء مؤسسات بلده حتى تستقر.