عندما زرت الصين لأول مرة.. كلما رآني أحدهم ظن أنني من أبناء جلدته، ثم يهش وجهه ويبش قبل أن يهم بسؤالي: "هل أنت صيني.. أتتحدث الصينية؟" فأجيبه بغيظ مؤكدا بعدد لا بأس به من الأيمان المغلظة "كلا.. أنا مصري.. وأبويا مصري.. وجد جدي مصري من الصعيد الجواني". ولما تكرر الأمر عدة مرات آخرها منذ أيام قلائل عندما قابلت "ليو" آخر من الصين -وأغلب الذين عرفتهم من الصين حتى الآن يدعون ليو بالمناسبة- بدأ يساورني الشك؛ ربما اتخذ أحد أجدادي القدامى زوجة أو جارية أو ملك يمين من ذوات العيون الضيقة؛ أو أنني مختوم على جبهتي شعار "Made in China" خفي، لا يميزه سوى أبناء موطني المزعوم. عرفت من هذا ال "ليو" الأخير أن إقامته بمصر في حي الزمالك ربما تمتد لفترة بغرض تسويق منتجات شركته وبحث سبل التعاون مع عملاء جدد. لتوفير كثير من الوقت والجهد في مناقشات ومهاترات لا طائل منها بغية التوصل إلى اتفاق وتنفيذ أحد الصفقات التجارية؛ فليس هناك أفضل من حسم الأمور عن الطريق التعامل "face to face" أو "وجها لوجه". وحيث إنني من المعجبين بالعبقرية الاقتصادية لذوي العيون الضيقة؛ ليس هذا بسبب صداقاتي المتعددة معهم أو لتقارب شبه بيني وبينهم -كما يدعون- فحسب؛ وإنما لشغفي بمتابعة أخبارهم ورصد تحركاتهم عن كثب؛ خاصة بعد موجات المد الاقتصادي المنظم الذي كانت تنشد غزو الأسواق المصرية، ونجحت في هذا نجاحاً منقطع النظير. لا خلاف أن الاقتصاد الصيني هو أحد أنجح أنظمة الاقتصاد في الساحة العالمية؛ إن لم يكن أنجحها على الإطلاق خلال السنوات الأخيرة. هذا لأن الصينيين لديهم قدرة عجيبة على التواجد في المكان والزمان المناسبين؛ واستغلال أي ظرف اقتصادي على المستوى المحلي والعالمي؛ مما أتاح لهم فرض سطوتهم بشكل واسع على الأسواق العالمية، وخاصة النامية معدومة الهوية، بالإضافة إلى الأسواق شديدة الاستهلاك، والمفتوحة على مصراعيها، مثل الأسواق العربية وعلى رأسها السوق المصري. والعجيب أننا قد أزلنا -بأيدينا- دلفتي باب السوق المصرية أمام طوفان المنتجات الصينية لدرجة كاد يصير معها كل شيء في مصرنا صينياً؛ حتى بلغ المقام ببعض الخبثاء ولو على سبيل المزاح التفكير في جلب عرائس صينية للتغلب على مشكلة عنوسة الشباب وصعوبة الزواج. كتب علينا أن نرى أغلب المنتجات في مصر يزينها شعار "صنع في الصين"؛ فلا تكاد تمر مناسبة دينية في مصر إلا ونجد لها منتجات صينية؛ مثل فانوس وزينة رمضان وكحك وصواريخ العيد. وكأن هناك "عيونا ضيقة" تترقب عاداتنا التي ترتبط بمناسباتنا الدينية؛ وتترصد ما يقدمه إعلامنا كي تستغلها لأغراض اقتصادية صرفة. حتى أنهم لم يتركوا فرصة النجاح المدوي لشخصية المفتش كرومبو الكارتونية تمر مرور الكرام وقاموا بتصنيع دمى وفوانيس "المفتش كرومبو" التي نزلت الأسواق في شهر رمضان؛ في وقت لم تجل هذه الخاطرة ببال أحد قناصي الفرص من المستثمرين المصريين. ولا تتعجب إذا فاجأك من يقرع بابك قبل العيد؛ فإنه ليس إلا حلاقاً صيني؛ جاء يشاركك فرحة العيد ويقص شعر رأسك ولحيتك ويأخذ "عيدية" خمسة من الجنيهات. ويبدو أن الصينيين قد أدركوا بعد دراسات مستفيضة، طبيعة المجتمع المصري فيما يتعلق بالمرأة وقضايا الجنس؛ وهي خطوط حمراء يتعامل معها المصريون في الخفاء وبحذر شديد. بعض هذه القضايا الشائكة التي احتدم حولها النقاش في مصر؛ كانت قضية عذرية الفتيات، وتلك الفتاوى التي تمنح أو تحرم حق استعادة الفتاة لعذريتها. وهنا انشقت الأرض عن ذوي العيون الضيقة؛ فظهرت أغشية بكارة صناعية، وغزت بعض الأسواق العربية؛ في الوقت الذي كان يعتزم فيه مجموعة من المستوردين المصريين إدخال هذه المنتجات إلى مصر؛ مما أثار جدلاً كبيراً في الشارع المصري آنذاك؛ لأنه خطر يهدد ضياع شرف بنات مصر في حال دخول مثل هذا المنتج للأسواق، وتم منع تغلغل هذا المنتج ولو بصورة مؤقتة. ولم تكد زوبعة الغشاء الصيني تنتهي حتى اقتحمت الأسواق المصرية مناديل المتعة الجنسية الصينية وبصورة غير شرعية، لتحدث بذلك ضجيجا داخل المجتمع المصري ونادت أصوات برفض مثل هذه المنتجات الانحلالية التي تهدف لتدمير المجتمع وهدم قيمه وأخلاقياته.
"خليك مكانك هنخبط على بابك" لا يتورع الصينيون في تطبيق تجربة الوصول للعميل أينما كان، ويبدو أن ذوي العيون الضيقة اكتشفوا تلك العادة الغريبة للأمهات المصريات؛ حيث تحرص الكثيرات منهن على تجهيز بناتهن بالثياب ومستلزمات الزواج الأخرى منذ الطفولة. وقد ظهر هذا المد الصيني في مصر منذ قرابة خمس سنوات؛ عندما رأينا هؤلاء الباعة الصينيين شبابا وفتيات يحمل كل منهم على ظهره مخلة تمتلئ بألوان الثياب، يدقون أبوابنا لعرض ثياب صينية بأسعار زهيدة -أقرب للخسارة وهذا عن واقع تجارب شخصية- وأقبلت المصرية "أم العروسة" كالعادة على شراء هذه المنتجات في البداية حتى نفد ما لدى هؤلاء الباعة من منتجات صينية وبدءوا في بيع منتجات مصرية مصدرها الأسواق المحلية. والغريب أنهم قد اختفوا فجأة كما ظهروا؛ حيث لا يعلم أحد كيفية دخولهم إلى مصر وتحت أي عباءة كانوا يتحركون بهذا الشكل المنظم؛ لكن إذا ما نظرنا بعمق إلى مغزى هذه التجربة ستتضح لنا حقيقة الفكر الصيني؛ فلم يهجر هؤلاء الشباب بلادهم ويقطعوا آلاف الأميال بل وتعلموا لغة الضاد من أجل جنيهات قليلة وربما قروش لا تسمن ولا تغني من جوع. وإنما التفسير الأقرب منطقية هو أن تلك التجربة ليست إلا دراسة لطبيعة المشتري المصري بغرض التعرف على طبيعة الأذواق والألوان وحتى الأحجام -المقاييس الجسدية للمصريات- قبل أن يتم إغراق السوق المصري بمنتجات صينية تتناسب وأذواق وأحجام المصريين. في المقابل إذا ما دققنا النظر لحال السوق المصرية خاصة مع الظروف الاقتصادية السيئة؛ سنلاحظ أنها تصب في مصلحة المنتجات الصينية رغم أن كثيراً منها -وليس كلها- رخيص الثمن قليل الجودة. فاختلت المعايير الشرائية واضطر المصريون للبحث عن المنتج الأرخص بغض النظر عن جودته أو الحاجة إليه. ولأن كثيرا من المستوردين المصريين ضعاف النفوس قد أدركوا تلك الحقيقة جيدا؛ فقد غزت موجة من الباعة الجائلين مرتزقة الأتوبيسات ومترو الأنفاق يعرضون منتجات صينية مجهولة الهوية بثمن بخس؛ لا يتجاوز الجنيه. وإذا ما تحدثنا بلغة تختلف قليلا -وقلما تخطئ- هي لغة الأرقام، سنكتشف أن هناك توقعات بتزايد حجم التبادل التجاري بين مصر والصين ليبلغ خلال سنوات ثلاث عشرة مليارات دولار من أصل ستة مليارات دولار في الوقت الحالي؛ في الحين الذي لا تزيد فيه صادرات مصر إلى الصين عن 300 مليون دولار، أي أن النسبة الحالية لا تتعدى واحداً إلى عشرين. وفي النهاية كانت أغرب نكتة سمعتها عن ذوي العيون الضيقة: أن وفداً صينيا برئاسة نائب رئيس جهاز المحاسبات الصيني؛ قد زار القاهرة أوائل الشهر الجاري للاطلاع على تجربة جهاز المحاسبات المصري تحت قيادة المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات -الذي يكن المصريون لشخصه كل تقدير- في مكافحة الفساد والقضاء على الرشوة. وعندما سأل الملط رئيس الوفد الصيني عن سر هذا الازدهار الاقتصادي الملحوظ، وتلك النقلة الحضارية على كافة الأصعدة، أكد أن الصينيين شعارهم: "هيا بنا نعمل.. ثم هيا بنا نعمل.. ثم هيا بنا نعمل". ترى ما هو شعار المصريين؟ شوية جد وشوية لعب ضحك ولعب وحب بالبَرَكَة كله ماشي