جرت العادة في الأوساط الأدبية أن الاحتفاء بالأديب لا يكون إلا عقب وفاته.. تُعقد الندوات، وتُكتب المقالات؛ من أجل الإطراء على أعماله المختلفة، لكن في حياته قد لا يحظى من ذلك بشيء، وسنحاول معكم في "بص وطل" أن نصنع ذلك مع الهامات الثقافية في مجتمعنا المصري، التي بنورها يُضاء الطريق الأدبي لتمر الأجيال. واحتفالنا اليوم بعيد ميلاد مفكّر كبير رغم كونه اقتصاديا في الأساس، فإنّه اصطُلح على تصنيفه كمفكّر وأديب؛ نظراً لمقالاته المختلفة، وكتبه التي وصلت إلى 26 مؤلفاً، اهتم في أغلبها برصد الواقع المصري. ولعل أبرزها كتابه "ماذا حدث للمصريين"، الذي تناول عبره تشريحاً مفصلاً للمجتمع المصري بكل الطبقات وعديد الصفات، وألحقه بجزأين هما "عصر الجماهير الغفيرة" و"مصر والمصريون في عهد مبارك". نتحدث اليوم عن جلال أمين.. وهو أديب من بيت أدبي أصيل، فهو ابن الأديب الكبير أحمد أمين، وعمل أستاذاً للاقتصاد في الجامعة الأمريكية حتى نُشر له مقال في الأهرام الاقتصادي في مطلع الثمانينيات، ينتقد به الوضع الاجتماعي والسياسي في عصر السادات، لتظهر روحه الأدبية، ونظرته غير المسيسة للمجتمع، ليعبّر عنها في مقالات عديدة وكتب وفيرة يكرّس لها بقيّة عمره، وكعادة أي كاتب لا يكون الاحتفاء به إلا عبر أغلى من يملك؛ كتبه، لذا سنحاول معكم استعراض ثلاثة كتب من أبرز ما كتب أديبنا الكبير.
هذا الكتاب بديع بكل معنى الكلمة ماذا علمتني الحياة.. سيرة ذاتية وصراحة متناهية هذا الكتاب بديع بكل معنى الكلمة، وكل محب للقراءة ومتيّم بالسير الذاتية سيجد به وجبة في قمة الثراء، يقول الكاتب الإنجليزي جورج أورويل إن السيرة الذاتية التي لا تخلو من فضيحة لا تكون صادقة، وهنا قد تجد الكثير من الفضائح، التي أراها هنا بمثابة صراحة زائدة وليست فضيحة، فهو يتحدّث دون قيد أو حساب عن أسرته وأصدقائه وحياته العملية وآرائه الفكرية، كأن يتحدّث عن علاقة عاطفية كانت بين والدته وابن خالها، قبل زواجها بأبيه، ويجيء ذلك بأسلوب سلس رصين ومنظّم بشدة، ومقنع بالطبع. ويتناول هنا أباه المفكّر أحمد أمين، وإخواته السبعة ووالدته البسيطة وصباه وتعليمه، ويربط كل ذلك بالوطن ومظاهره وما يمر به من أحداث، ويتعرّض لانضمامه لتيارات مختلفة مثل حزب البعث وإيمانه بالماركسية ومن ثم العودة، وكذلك اندلاع ثورة 52 ورأيه في عبد الناصر، إذ يرى أنّه كان صاحب رؤية حاد عنها بتوطئته للدولة البوليسية، ويذكر كراهيته للسادات وفرحه باغتياله، وهنا تتضّح لك الصراحة المتناهية التي يسلكها "أمين" في آرائه، وعدم خشيته مغبّة ذلك الرأي. يتحدّث كذلك عن سفرياته بالخارج سواء للبعثة في لندن أو للعمل في الكويت أو للبحث العلمي في لوس أنجلوس، ومن الجوانب التي يفرد لها حديثاً ممتعاً حبّه للتدريس وعلاقته بالطلبة سواء في عين شمس والأكثر في الجامعة الأمريكية، آخر فصلين في الكتاب: "المرض والشيخوخة" و"البدايات والنهايات"، بهما عصارة خبرة رجل مفكّر عظيم ومثقّف عتيق عاش وجال بين الأماكن وخاض المعارك، تشعر به جالساً كالمعلم وأنت في مقعدك كالتلميذ، تستقي منه الدروس والعبر، في الحياة، التي حيرّته وحيرتنا.
هذا ليس كتابا عاديا إنمّا يُضيف لرصيدك الكثير رحيق العمر.. إكمال رحلة الحياة هذا ليس كتابا عاديا، إنمّا كتاب يُضيف لرصيدك الكثير عقب إنهائه، هو بمثابة الجزء الثاني من "ماذا علمتني الحياة"، وبه إكمال لرحلة حياته، وتوضيح لبعض ما جاء بالجزء الأول.. هنا ستجد الأدب القصصي، وأدب الرحلات، ستتعرّف عبر رسائله المدهشة مع أخيه حسين على آراء عميقة في الأدب العالمي، وفي السيمفونيات والموسيقى، سيعود بك لحقبة زمنية بعيدة، وكيف كانت مصر وتقاليدها وقتما كان طفلاً، ثم تتعايش معه مراهقته وقلّة تجاربه الإنسانية، ثم سفره لتحضير الدكتوراه، وزواجه من إنجليزية، وهنا نتعمّق أكثر في حياته؛ حيث الأطفال ومكان المعيشة، وأسلوب الحياة، وتحاول من كل ذلك أن تستقي الخبرة، وأن تتعلّم؛ فالسير الذاتية قصص حياة أناس وخبرات تتراكم لتضيف للآخرين. الآراء الاقتصادية والاجتماعية لم تغب عن الكتاب أيضاً، فثمة أحاديث عن الماركسية والاشتراكية، والصراعات الدائرة بين الطبقات الاجتماعية وظاهرة الحراك الاجتماعي، والنظام البيروقراطي في مصر، وكذا معايشة د. جلال أمين ورؤيته في غزو الكويت، وأحداث 11 سبتمبر، والختام الذي كان مع فصل أراه الأمتع: "لماذا تخيب الآمال"، الفصل الذي رغم أنه حمل الكثير من الكآبة، فإنّك تتعلم منه الكثير والكثير، فهو باختصار يقول إن أغلب ما نقاسيه في حياتنا بسبب وضعنا لأهداف صعبة الوصول، ومن ثم عدم تحقيقها يصيبنا بالقنوط. التنوير الزائف.. الدخول لعش الدبابير بهذا الكتاب يدخل دكتور جلال أمين النار بقدميه، لا سيما مع نقده الضاري -بنبرة هجومية غالباً- على كثير من الأوضاع والمفاهيم الثقافية التي استقتها ثقافتنا من الغرب، فيما يعرف بالتنوير، وخاصةً ما قام به الدكتور طه حسين، ولجلال أمين أسلوبه الخاص، حيث السهل الممتنع، والقدرة المدهشة على إقناعك و"تكييفك"، إذ يبحث باستمرار عن عالم مثالي يخلو من الهنات. الكتاب ينقسم لفصلين، الفصل الأول والأكبر تحت عنوان التنوير الحقيقي والزائف، ويحاول به أن يخلص لعدة أمور أهمها أننا أمة فقيرة لكننا لسنا متخلفين أو جهلة ومن العار أن نشعر بالعار، ويظهر ذلك في قوله: "أنت لست متخلفا إلا بقدر شعورك بالعار إزاء هؤلاء الذين يسمون أنفسهم متقدمين". ويحاول بصورة كبيرة الدعوة إلى التمسّك بالهوية والتراث، وعدم الاقتراب أو النيل منهما، وإن استقينا من الغرب شيئا ما فلا بد أن يكون ملائما للعادات الخاصة بمجتمعنا، ويخوض في فكرة التديّن ونعت كل متديّن بالتخلّف، ويرى في ذلك خطأ كبيرا، فالفصل بين التديّن والإرهاب واجب، وليس كل متدّين إرهابي أو متخلّف، وليس شرطاً أن يفقد المرء دينه ليصبح ذا شأن علمي. ويتناول كذلك ثورة المعلومات والاهتمام المبالغ به هذه الأيام بالمستقبل، ويتعرّض لخطورتهم على المجتمع. الفصل الثاني يتعرض لنموذجين من نماذج التنوير الزائف برأيه: طه حسين ويوسف شاهين، ويفّند رأيه الذي كوّنه بناء على وجهة نظره الخاصة، في الأول الذي يراه مخطئاً في كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي"، وفي الثاني حيث يرى أفلامه عادية، ويرى أن حرية إطلاق الفكر والإبداع ليست واجبة؛ إذ إن التقيّد بالأعراف التي يفرضها المجتمع واجبة، سواء ناحية الجنس أو العنف أو الدين. كتاب يدق ناقوس الخطر في بعض الأمور المتعلّقة بالهوية، ويخوض معارك شرسة في أخرى ضد المزاعم التي من شأنها هدم التراث؛ عقلية د. جلال أمين فذّة، وتؤكد أنه رجل من طراز رفيع، قلما يجود الزمان بمثله. في 23 يناير من عام 1935 كان ميلاد مفكرّنا الكبير، الذي لم تقتصر أعماله على التشريح الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل له كتاب "كتب لها تاريخ"، الذي يتعرّض به نقدياً ل13 كتابا مختلفا، ويمتلك كتابي "شخصيات مصرية فذّة"، و"شخصيات لها تاريخ"، حيث يسّلط الضوء على تراجم العديد من الشخصيات من منظوره الخاص. وهكذا حاولنا بإطلالة سريعة الاقتراب من بعض أجود أعمال جلال أمين، داعين من قرأها إلى إعادة تحصيلها في يوم ميلاده، ومن لم يقرأ لجلال أمين أن يبادر بقراءة أعماله، التي تشكّل ركناً مهماً في المكتبة المصرية.