حتى لو أتتهم معجزة سيكيلون. له التهم والإهانات.. البرادعي الآن وصل لمرحلة أن أي فعل أو قول سيلاحق باللعنات، وأي بادرة منه سيتم إلباسها ثوب الخيانة والعمالة أو على أقل تقدير ثوب الخلاعة والانحلال.. أو أي صفة أخرى كريهة "يترشح أو لا يترشح.. سيان فالرجل سيئ في كل الحالات".. سواء ذهب ليزور العشوائيات فهو مدّعٍ يتاجر بالفقراء ويتزلف للمواطنين؛ لو لم يهبط للشارع فهو يرانا من برج عاجي لا يعرف طبيعة المصري ولا العشوائيات! لو انتقد المجلس العسكري واستنكر مجازره في محمد محمود ومجلس الوزراء فهو يريد إشعال البلد، ولو حاول محاورتهم والاجتماع معهم فهو خائن بائع للثورة! الرجل بدأ الكفاح في وقت كان الجميع من منتقديه في الجحور بالمعنى الحرفي.. هو أول من ألقى بالحجر الأول ومن حرّك الماء الراكد، ومن كنت أتعجب من إصراره على رؤية الأمل فينا ونحن قد أهلنا على أنفسنا عقودا طويلة من التراب والجمود.. ظل للنهاية بنفس العزم والأمل أن الشعب سينهض وسينفض عن نفسه الجمود ويرفض الظلم. كنت أتعجب فعلا ما الذي يراه الرجل ولا نراه نحن.. الآن عرفت أنه على نفس مستوى بعد النظر لكن مع الأسف في الجانب السيئ منا.. فهو يرى ما هو أبعد في كل قرار.. يرى المرحلة المشوهة الحالية بكل تفاصيلها وبوجه شمولي، ويرى بالفعل أن النظام السابق باقٍ وبقوة، وأننا من نسانده بكل الكمّ من الكراهية المتبادلة لبعضنا، وبكل الكم من الطائفية التي أصابتنا. دائما كنت أردد أنه ما الذي يدفع رجلا في قامته العلمية والأدبية لدخول عش الدبابير، وهو كان بإمكانه الحياة منعما بالخارج أو بمصر دون كل المشاكل والإهانات التي تلاحقه سوى رغبة وطنية. لماذا يقحم نفسه في معسكر من الكراهية والتطاول عليه وعلى عائلته، ووضعه في موقف المدافع عن نفسه طيلة الوقت لدرجة أن عليه إثبات أنه مؤمن. لماذا هذا الكم من الكراهية لرجل يريد الخير للبلاد؟ الرجل حسبها بعقلانية.. هو لن ينجح في الانتخابات بأي حال.. الإسلاميون يرونه شيطانا على قدمين، ولا يدخرون أي جهد للنيل منه.. ويلعبونها معه بلا حدود لمهنية أو لاحترام متبادل.. بل الهجوم مفتوح لأبعد حد.. بدءاً من التعرض لسمعة عائلته، للتشكيك في إسلامه، وحتى الفيديو الشهير لخالد عبد الله الذي يبرر عجزهم عن الدفاع عن فتاة التحرير بالتهكم على موقف البرادعي و"يا واد يا مؤمن" الشهيرة. وهو كذلك عند المجلس العسكري وفلول النظام.. هو لعنة التغيير وشرارة الثورة الأولى منذ 2009 لذا فهو من الملعونين الذين ينبغي توجيه أصابع الاتهام له في كل مناسبة، وتصيّد الأخطاء واختراعها له إن لزم الأمر، بدءاً من تسهيل دخول الأمريكان للعراق في ظل نظام كان يمدّ يد العون للعدوان جهاراً عياناً، وحتى بقاياه التي لا تزال تمارس نفس سياسته. المكروه الأول من أمريكا وإسرائيل التي صرّحت في جرائدها أنه من العدل أن يكون في السجن مكان مبارك، ولم تخفِ فرحتها بالاحتفال بعد انسحابه من سباق الرئاسة! والعجيب والمثير للأسى والضحك معا أنه حتى بعد فاض به الكيل ووجد اليأس التام وتركها خضراء لهم ليمارسوا نشاطهم المحبب في التقاتل على السلطة والكعكة، وتلويث المجتمع بكافة مشاعر الكراهية والطائفية.. لم يسلم منهم كذلك! فهو إن ترشّح فهو عميل أمريكي إيراني سوبر لا تنتخبوه.. وإن انسحب فهو خائن للثورة التي خانوها بالفعل عشرات المرات في كل مرة يتخلون فيها عن شرعيتها وعن شهدائها لينالوا نصيبهم من فتات المجلس العسكري. لقد حسبها بالمنطق ورأى ما سيحدث بالفعل؛ لن يُكتب له النجاح في انتخابات الرئاسة.. بعد كل الكم من التشويه وإقناع الشعب بأنه تجتمع فيه كل صور الخيانة والتسخين والعمالة وجر البلاد للإلحاد.. سيكون نجاحه ضرباً من الخيال.. بل رفض التيارات الأخرى التحاور أو التعاون معه لصالح البلاد أو للوصول لحل وسط يؤكد أنه سيواجه بحملة أكثر شراسة.. لذا رأى أن يخوض المعركة الأصح وهي خدمة الوطن من خارج معارك السلطة.. خاصة أن النظام السابق الذي ناضل من أجل سقوطه ما زال باقياً ولم يتغير الكثير. باقٍ أسبوع تقريباً على موعد 25 يناير القادم الذي يريد أن يكون احتفالاً! نحتفل أن عاماً قد مرّ دون اتخاذ أي حكم ضد من أفسد الحياة السياسية.. نحتفل بازدياد أعداد الشهداء والمصابين.. نحتفل بأننا ما زلنا على نفس الدستور العقيم الفاسد.. أن الحريات تتراجع وما زالت هناك قنوات تغلق وأعداد صحف تمنع كما حدث في عدد "صوت الأمة".. أن الدماء التي سالت والإهانات التي تلقاها المواطن المصري من اختبار عذرية لسحل وضرب مرت دون حساب.. أن عجلة الاقتصاد التي صدّعوا رؤوسنا بها وأن التظاهر يعطلها أصابها العطب وصرنا نترنح بين أزمة بوتاجاز وأزمة بنزين.. كل هذا التراجع لكننا سنحتفل! لذلك كان لا بد له من الانسحاب من هذه الحلبة التي نسي من فيها دورهم الأساسي وارتدوا ملابس المهرج ليضحكوا ويُضحكوا علينا الجميع.