ربما كان انتقاد عمرو دياب على موقع إلكتروني أشدّ خطورة من مهاجمة الحكومة والمجلس العسكري نفسه، في ظلّ جمهور متيّم بحبّ هذا الفنان، ومستعدّ للدفاع المستميت عنه، ومهاجمة كل منتقديه بتعليقات غاضبة وهجوم إلكتروني كاسح لا ينتهي، بخلاف كومة من الاتهامات للكاتب، تتلخّص في أنه يغار من نجاحات الهضبة، أو يرغب في الشهرة من وراء انتقاد اسم كبير بحجم وشعبية دياب، ولا بأس أن يصل الأمر إلى اتهام الكاتب بأنه مأجور من بعض منافسي الهضبة. بخلاف فئة أخرى من عشّاق "هو إحنا في إيه ولا في إيه؟ بطّلوا كتابة عن الأمور التافهة وركّزوا في حاجة أهم.. البلد بتتحرق".. وكأننا علينا أن نكتب عن حكومة الجنزوري وطوابير أنابيب الغاز مثلا في قسم الفن! لكن هل يمنع كل ذلك أن نتأمّل خبرا فنيا مثيرا فرض نفسه في الأيام الماضية؟ مبيعات ألبوم "إنسان" للمطرب حمزة نمرة تتخطّى مبيعات ألبوم "بناديك تعالى" لعمرو دياب غرابة الخبر وقدرته على إثارة الدهشة لا تكمن في أن تاريخ الهضبة الغنائي وحده يوازي سنوات عُمر حمزة نمرة الثلاثين بأكملها (بدأ عمرو دياب مشواره الغنائي عام 1983 وحمزة نمرة مواليد 1980!) ولا أن عدد ألبومات الهضبة وصل إلى 26 ألبوما، في حين لم يقدّم نمرة سوى ألبومين فقط، ولا حتى أنه إلى يومنا هذا ما زال عدد من الجمهور لا يعرف حمزة نمرة أو سبق له سماع أغنياته، في حين يعلم القاصي والداني مَن هو عمرو دياب بغضّ النظر إن كان من معجبيه أم لا.. لكن الدهشة الحقيقية التي أراها موضع تأمّل أننا أمام ثقافتين غنائيتين مختلفتين تماما؛ الأولى تقوم على مخاطبة القلب ومعاناته من الهجر والخصام ولوعة الفراق والرغبة في الارتباط بالحبيب طول العمر، والثانية تقوم على مخاطبة العقل والتمرّد على الواقع والبحث عن القيم الإنسانية المفتقدة وحُب الوطن. للوهلة الأولى ستراهن على أن مَدرسة حمزة نمرة الغنائية لن تلقى النجاح والإقبال الجماهيري اللازم، بعد أن صار الغناء للوطن شيئا كلاسيكيا عفى عليه الزمن، ولا مانع من أن يكون مثار السخرية والاستهزاء من بعض من قتل فيهم الواقع حب الوطن والإحساس بالانتماء إليه. للوهلة الأولى ستجزم أن البحث عن القيم الإنسانية المفتقدة في ألبوم يحمل اسم "إنسان"، لهو مجرّد حلم يليق بالشعراء الحالمين الذين يعيشون في عالم منفصل بمفردهم، لكنه بعيد كل البُعد عن لغة السوق ونظرية "الجمهور عايز كده" التي يتحجج بها كل فنان يقدّم عملا لا يلقى إعجاب النقاد والمهتمين بالفن. للوهلة الأولى ستؤكّد أن تسريب الأغاني وقرصنة الإنترنت ستقضي على أي بارقة أمل في نجاح ألبوم جاد بعيدا عن "النحنحة" و"الشحتفة"، ولا يقدّم مطربه فيديو كليب راقص مع مجموعة من ال"موديلز" العاريات. كل هذا قد نتفق عليه ونحن نتحدّث عن ألبوم "إنسان" لحمزة نمرة في المطلق، دون أن نفكّر في مقارنته بألبوم "بناديك تعالى" لعمرو دياب، فما بالنا لو كنا قد تجرّأنا وطرحنا المقارنة في موضع التنفيذ قبل طرح كلا الألبومين؟ بالتأكيد كان الجنون هو أقل اتهام ونقيصة ستلصق بنا في حينها. لكن نمرة فعلها وحطّم ب"إنسان" نظرية "الجمهور عايز كده" تحطيما، ليثبت أن الجمهور جاهز دائما للتجديد والتغيير، ليس في نوعية الألحان والتوزيعات فحسب، بل في الأفكار ونوعية الكلمات نفسها، ومن جانبه أثبت الجمهور نفسه أنه على استعداد لتقبّل كل الألوان الغنائية الجديدة ليقدّم لها وصفة النجاح السحرية القادرة على رفع مطرب ما زال "ابن امبارح" مثل حمزة نمرة، بنفس منطق نجاح ألبومَي "في حضرة المحبوب" لوائل جسار، و"المُعلّم" لسامي يوسف، ليس لاحتوائهما على أغنيات دينية كما ظنّ البعض، بقدر ما كان كل من الألبومات الثلاثة حقيقيا لأقصى درجة؛ حيث يُؤمن كل مطرب فيه بما يُقدِّمه، ويُخلص في تقديمه بأفضل ما لديه من طاقة وعزيمة وتسخير لكل الأدوات الفنية لإخراجه في أفضل شكل ممكن. فعلها حمزة وأثبت أن التفوّق على عمالقة الغناء ليس من رابع المستحيلات، وأن تحقيق أعلى نسبة مبيعات ليست دوما محجوزة باسم الأقدم بقدر ما هي تنتظر الأحدث والأخلص. فعلها حمزة ليدفع عدد من الجمهور إلى شراء ألبومه رغم أنه متاح مجانا على شبكة الإنترنت. فعلها حمزة ليجذب الشباب الذي اتهمه البعض بالتفاهة والسطحية لحضور حفلاته الغنائية ذات الطابع الخاص المليء بالوطنية وحُب البلد والانتصار للإنسانية، ليقدّم لهم بأغنياته أفكارا وقضايا معاصرة يعيشها المجتمع المصري والعربي، بأسلوب فني لا يخلو من الروح المصرية، ولكن باستخدام الأنماط الغربية المعاصرة أحيانا، أو يُعيدهم إلى تراث سيد درويش وعبقه التاريخي أحيانا أخرى، مستكملا معهم مشواره الغنائي الذي بدأه في الإسكندرية مع فريق "الحب والسلام" الغنائي، ويضع في سيرته الذاتية ألبوم "إنسان" بجوار ألبومه الأول "أحلم معايا" الذي يناقش الأفكار والقضايا ذاتها ببصمات حمزة المميزة. فهل نحن أمام ثورة غنائية موازية للثورة السياسية؟ وهل ستعيد تلك الثورة الغنائية صياغة معايير جديدة للنجاح؟ وما هي تلك المعايير؟ وهل سيعدّ تفوّق مبيعات "إنسان" على مبيعات "بناديك تعالى" إيذانا ببدء عصر غنائي جديد أم إن الأمر لن يعدو كونه ظاهرة تأخذ وقتها وتنتهي؟ أسئلة لن نجيبها حتى لا نصادر على حقّ أحد في التفكير فيها والاجتهاد في إجابتها، لكنا على الأقل في انتظار آرائكم وإجابتكم المؤيّدة أو المعارضة..