هذا هو عام نجيب محفوظ، فمنذ مائة عام بالتمام والكمال وُلد كاتبنا، ليصبح سيد الرواية العربية، وأشهر من كتب الأدب في الوطن العربي طوال قرن من الزمان، حصد خلالها الجائزة الأبرز "نوبل" في الأدب؛ لكن مؤخراً عادت الهجمات الشرسة ضد محفوظ من جديد، بعد أن تعرّض لها سابقاً على يد من نعتوا نفسهم بحماة الدين، ووصل الأمر بهم لمحاولة اغتيال آثمة باءت بالفشل، واعتذر مرتبكها، وقال إنّه لم يقرأ شيئاً لنجيب محفوظ، ومع ذلك أقدم على محاولة إزهاق روحه، تلك الروح التي هي ملك لخالقها وحده. وهنا تكمن الأزمة: من يتحدّث ويتطاول لم يقرأ، فمن يقرأ لمحفوظ، بعين أدبية نافذة، يدرك حجم هذا الأديب الكبير، وسنحاول معكم في تناول لأربعة من أعماله، أُثير حولها اللغط، أن نفّند الاتهامات، ولو أن كاتبنا العظيم لا يحتاج لمدافع، ولكنّها رؤية وتذكرة، لعلّها تنفع. "أولاد حارتنا".. نجيب محفوظ الملحد! حين تتحدّث مع أي ممن لا يقرأ لمحفوظ، تجده ثائراً ويقول: كيف تقرأ لهذا الملحد. وعندما تقارعه الحجّة، سائلاً إياه إن كان قرأ "أولاد حارتنا"، التي دفعته لذلك الرمي بالباطل، تجد إجابته النفي. والحق أنني عندما قرأت تلك الرواية منذ فترة قرأتها وأنا متحفّز. ووجدت أن المشكلة الكبرى بها أن من قرأها أخذ على عاتقه أنهّا "كتاب"، وليست "رواية"، وهي الإشكالية التي تحدّث عنها محفوظ بنفسه. فالرواية تقع في جو الحارة التي كانت مرتعاً لأغلب أماكن أعمال "نجيب"، وتتعرّض للصراع بين الخير والشر، والدين والعلم، وشخصياتها الأساسية: الجبلاوي وأدهم وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة. وبها بالفعل إعادة لصياغة قصص الأنبياء بشكل سردي بليغ، قد لا يقبله البعض إن أخُذ على محمل خاطئ، لكن هناك في الأدب ما يُعرف بالرمز، ويقول عن ذلك د. أحمد كمال أبو المجد: "فهمت شخصية عرفة بأنهّا رمز للعلم المجرّد.. وليست رمزاً لعالم بعينه، كما فهمت شخصية الجبلاوي على أنهّا رمز تعبيري عن الدين؛ وليست بحال من الأحوال تشخيصاً رمزياً للخالق سبحانه وهو أمر يتنزّه عنه الأستاذ نجيب محفوظ ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي فضلاً عن أن يستسيغه أو يقبله". وماذا عن رأي الكاتب نفسه؟ يقول محفوظ: "الرواية تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال.. ولا بأس بهذا أبداً.. ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ، ولقد كان المغزى الكبير الذي توجّت به أحداثها.. أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في الجبلاوي وتصوروا أنّهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في عرفة أن يديروا حياتهم على أرضهم التي هي حارتنا، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحوّل إلى أداة شر، وأنّه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم.. فعادوا من جديد يبحثون عن الجبلاوي". ويدلو د. محمد سليم العوا بدلوه بصفته أميناً عاماً للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليقول: "الرمز كلّه يحتمل التأويل، وما كان محتملاً للتأويل يجب حمله على أحسن وجوهه. فليقرأ القارئ كيف يشاء، وليفهم كيف يشاء، ولكنّه مطالب بألا يكذّب رجلاً مسلماً أفضى إلى الله تبارك وتعالى بما قدّم. وقد قدّم للغته وثقافته خيراً كثيراً، نرجو أن يجزيه الله به خيراً". "الثلاثية".. محفوظ حوّل مصر لبلد الراقصات! هنا يتجلى الفارق الشاسع بين الرواية والفيلم. كثيرون يشاهدون أعمال محفوظ المُحوّلة للسينما، ويرون بعض المشاهد المبتذلة التي يغرق بها المخرج، وإن عادوا للرواية سيجدون العذوبة في أسمى صورها. هذا العمل الضخم، الذي صنفّه اتحاد الكُتاّب العرب كأفضل عمل روائي في القرن العشرين، يغوص في قلب القاهرة؛ حيث الأحياء العتيقة وما يحوطها من أحداث في حقبة مهمة من تاريخ مصر، عبر تتبّع لأسرة السيد أحمد عبد الجواد، ذلك الرجل الصارم في منزله، الليّن في بيوت اللهو، وصورة أمينة الزوجة المستكينة، الراضخة لأوامر الزوج، وكمال الابن الذي يبرز ويتقلّص معه الأب وسطوته، وتأخذ الرواية جانباً اجتماعياً وسياسياً بديعاً؛ إذ يقول في إحدى فقرات السكرية: "انتخابات مزورة، كل شخص في البلد يعلم أنها مزورة، ومع ذلك يعترف بها رسمياً وتحكم بها البلاد، ويعني هذا أن يستقر في ضمير الشعب أن نوابه لصوص سرقوا كراسيهم، وأن وزراءه لصوص سرقوا بالتالي مناصبهم، وأن سلطاته وحكومته مزيفة مزورة، وأن السرقة والتزييف والتضليل مشروعة رسمياً.. ألا يعذر الرجل العادي إذا كفر بالمبادئ والخلق وآمن بالزيف والانتهازية؟"، لكن البعض بمنظور ضيق رأى بها فقط ما يشاهده في التلفاز من مشاهد راقصات، وقال أحدهم عن الإيحاءات وما تحمل، وأضرب مثلاً بقصص القرآن، وأعظم القصص قصة سيدنا يوسف، إذ يقول المولى عزوجل: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربّه}. فهذا هو المثل الأعظم على التدليل لشيء ما دون إغراق، ببلاغة ورصانة موجزة. ومن يقرأ لمحفوظ يعرف أنّه أكثر الكُتاّب تأدباً في اختيار مشاهده، دون ابتذال. "خمارة القط الأسود".. نجيب حوّل مصر إلى خمارة كبيرة! سمعت هذا القول، لمجرّد أن هناك مجموعة قصصية اسمها "خمارة القط الأسود"، تلك المجموعة التي حوت بين دفتيها 19 قصة قصيرة غاية في الإمتاع، يجول فيها كاتبنا بين عوالم ونفوس، وينسج قصصا وحكايات. ونظر البعض فقط للعنوان، ولم يبصر المضمون، والقصة ذاتها هي آية في الرمزية والإثارة، حيث شخص يدخل الخمارة ويجهله الموجودون، ويدور بينهم الحوار الذي يحمل فلسفة واضحة، ظهرت أيضاً في قصة أخرى من قصص هذه المجموعة هي "البارمان"، التي تتناول قصة العجوز "فاسيليادس"، وكيف أنّه ارتبط بأحد زوار الخمارة، وقامت بينهم علاقة صداقة قوية، في قالب رمزي كبير، لا يمت للصورة الفاسقة التي أخذها البعض من العنوان، ولم يحاولوا النظر في أغوار شخصيات الأبطال المحكمة، التي تُوجد في الواقع، ولا تمثّل الكاتب، وإلا فما هو الخيال؟، وما تعريف ملكة الإبداع؟ "ثرثرة فوق النيل".. رواية شوهتها السينما من الروايات التي ساهمت السينما في تشويه حسنها، وحكم البعض عليه من مشهد رأوه، ولم يلتفتوا إلى كتاب يقرأونه. فهي ليست بثرثرة عادية، وإنمّا بمثابة صراع: صراع داخلي بين الضمير النائم والمستيقظ، بين العبث والجد، بين الشخص المسئول والشخص التالف. شخصيات العمل -كعادة محفوظ- كانت مُتقنة. لا أدري كيف يمتلك تلك الحبكة في صياغة الشخوص، لكن لا عجب فهو بحق عالمي. بين أنيس الشارد والهائم في عالم غير العالم، وبين رجب الفنان المغرور، وسمارة المؤمنة بالحب والجدية، ومصطفى المحامي الباحث عن النموذج المثالي، وعلي المؤمن بالازدواجية، وخالد الكاتب غير المؤمن بالقواعد، وأحمد الذي يحاول أن يصطبغ بالكمال، وليلى وسناء وسنية نماذج للفتيات اللاتي لا يشغلن بالهن بشيء. كل ذلك اجتمعوا في عوامة على النيل، ودارت بينهم الحوارات، التي حملت في طياتها الحكمة، وإن بدت في الظاهر هزلية. فهناك جمل من عينة: "الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت" و"لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله". وهناك جريمة تقع تصنع تحولاً في مسار الحدث، هناك فتاة "سمارة" تحاول اقتحام العوامة بمنهجها، هناك صراع عن الحب ومعناه، هناك شجن وسياسة وتصوير حال لمصر في فترة مهزوزة من تاريخ مصر. وفي الختام نصيحة: اقرأوا قبل أن تتكلموا، ولا ترفضوا عملاً لم يرقكم، فهناك عشرات الأعمال قد تعجبكم، فلا يوُجد مطلق في الكون، وللذين يتهمون أستاذنا نجيب محفوظ بمعاداته للإسلام، أهديهم قوله: "أعتقد جازماً حازماً أنّه لا نهضة حقيقية في بلد إسلامي إلا من خلال الإسلام".