هذا هو السؤال، الذي يطرح نفسه على كل شخص في مصر كلها، في هذه الأيام.. والذي يثير قلق الجميع.. بلا استثناء.. فبعد حسم نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات، وفوز حزبي الحرية والعدالة، والنور بأغلبية المقاعد، في معظم الدوائر، انطلق السؤال، حتى في رأس من لم يطرحه على نفسه من قبل أبدا.. فعلى الرغم من القهر والاستبداد، في العصور السابقة، لم يتغيّر وجه الحياة في مصر.. ومنذ أيام محمد علي لم تحيَ أبدا في ظل حكم عقائدي.. كانت دوما ذات طابع خاص.. طابع يجمع بين كل المتناقضات.. وكل الفئات.. وكل الطوائف.. ومنذ نهايات السبعينيات، ظهرت فيها فجأة موجة طائفية عجيبة.. موجة لم أشهدها في طفولتي.. ولا حتى في بدايات شبابي.. فعندما كنت صغيرا، كنا نقيم في بناية، معظم سكانها من الإخوة المسيحيين.. قضيت طفولتي كلها معهم وبينهم.. ولم أشعر بأي اختلاف.. كنا نلعب معا.. ونلهو معا.. نستذكر دروسنا معا.. ونقضي مناسباتنا معا.. في رمضان كان الكل يتعاون على صنع كعك العيد.. وفي عيد الميلاد، كنا كلنا نزيّن الأشجار.. كانت هناك موّدة.. وعِشْرة.. وصداقة.. وحتى مع أيام الجامعة الأولى، ظل الأمر كذلك.. هذا لأننا كلنا مصريون.. والأهم، أننا جميعا بشر.. بشر لنا نفس المشاعر والأحاسيس.. نفس الأفراح والأحزان.. نفس التطلَّعات والمخاوف.. ثم جاءت نهايات السبعينيات.. وانقلب الحال فجأة.. ساحة الكلية، التي كانت دوما صداقة ومودّة وتعاون، بذر فيها الخلاف بذوره، وانقسمت إلى ثلاث فرق.. إسلاميون، تعاملوا من منطلق قوة عدوانية.. ومسيحيون تعاملوا من منطلق أقلية خائفة.. ومتعادلون، وقفوا -مع الأسف- على الحياد، بين هذا وذاك.. ولأوّل مرة في حياتي شاهدت علاقة طائفية، بين بشر، لهم خالق واحد، بثّ فيهم من روحه -عزّ وجلّ- ليعمّر بهم الأرض.. ولم يرُقْ لي هذا أبدا.. أيامها.. وحتى هذه اللحظة.. وكما اعتدت، وكما رباني والدي، رفضت الانضمام إلى الفئات الثلاث.. ورفضت حتى أن أقف على الحياد.. ولكن هذا لم يصنع فارقا.. لقد تنامى المد الطائفي.. وتعاظم.. وانتشر.. وكان ذلك الإنتاج السريع، الذي بدأ في عصر السادات، هو الدافع الأول لهذا الانتشار.. ففجأة، وبعد أن ظل المجتمع متقاربا، من الناحية الاقتصادية، لعدة سنوات، شارفت العقدين، بدأت تتكّون فجوة واضحة بين الأغنياء والفقراء.. وظهرت طبقة جديدة، حاولت السيطرة على مقاليد الأمور.. طبقة نشأت مع الانفتاح.. ولأوّل مرة، منذ سنوات طوال، شعر المصريون بالفارق.. وارتفعت الأسعار.. وعانى الفقراء.. وازدادوا فقرا.. بكثير.. والإنسان عندما يفقد الأمل في الدنيا، يتجه بصورة تلقائية إلى الدين.. فالدين يعني سعادة في الآخرة.. سعادة يأس من الفوز بها في الدنيا.. ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، وإنما من كل نواحي الحياة.. تلك الطبقة الجديدة، الناشئة عن انفتاح اقتصادي مباغت، لم تكتفِ بالسيطرة على اقتصاد البلاد، وإنما سعت للسيطرة على كل شيء.. كل شيء بلا استثناء.. حاولت السيطرة على الوظائف، فصار الحصول على وظيفة يحتاج إلى وساطة كبيرة.. وحاولت السيطرة على القانون، الذي لم يعد يطبّق إلا على الضعفاء.. وحاولت السيطرة، حتى على المسار السياسي.. ولم يعد أمام الضعفاء سوى الاستكانة.. والقبول.. والاستسلام.. ومع الاستسلام، لا تخلو النفس من الغضب.. ولأن الغضب لا يكفي، لم يجد الناس أمامهم ملاذا سوى الدين.. وكلما ازداد غضبهم من الدنيا، ازدادوا فيه توغلا.. وتطرفا.. هذا لا يعني أن كل من اتخذ من الدين سبيلا، كان غاضبا أو مدفوعا إلى هذا، بل إن معظم من اختاروه فعلوا ذلك عن إيمان واقتناع.. ولكن الإيمان بالدين لا يعني العبادة وحدها.. ولكن المعاملة.. والطاعة.. وعلى الرغم من أن الخالق -سبحانه وتعالى- قد أمرنا أمرا واضحا ومباشرا وصريحا، بأن ندعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.. وهذا أمر لا يقبل المناقشة.. لأنه أمر إلهي.. ولكن الغضب دفع البعض إلى اتجاه آخر.. اتجاه نسوا فيه أن الله -جل وجلاله- قد حذرنا من أن نكون أفظاظا غلاظ القلوب، حتى لا ينفضّ الناس من حولنا.. نسوا تحذير المعز المذل، وأفرغوا ما بأعماقهم من غضب، في بوتقة الدين.. وهذا ما أبرزهم في صورة مخيفة، جعلت الكثيرين يصابون بالخوف.. والذعر.. والكثير.. الكثير من القلق.. ولأوّل مرة، طرحوا السؤال.. مصرنا.. إلى أين؟! وللجواب حديث آخر،،،