قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير بشهور قليلة قام ضباط بجهاز مباحث أمن الدولة -الذي تم حله عقب الثورة- بإلقاء القبض على حارس (بواب) إحدى العمارات بوسط القاهرة، واحتجازه كنوع من الترهيب؛ لإجباره على العمل مرشدا، والتجسس على إحدى المؤسسات الحقوقية الشهيرة التي يقع مقرها بنفس العمارة التي يقوم بحراستها. وقام ضباط مباحث أمن الدولة بتهديد البواب بتلفيق اتهامات له واعتقاله مرة أخرى إذا لم يتعاون معهم.. وبرغم أن البواب هو مواطن بسيط يعيش في أسفل السلم الاجتماعي، وليس لديه اهتمامات سياسية أو قضايا عامة يدافع عنها؛ فإنه بدا أنه قد أدرك بفطرته الريفية الصعيدية أن ما يطلبه من ضباط مباحث أمن الدولة شيء غير أخلاقي؛ فعندما أطلقوا سراحه قام بجمع متعلقاته وأخذ زوجته وعاد إلى قريته في صعيد مصر؛ مضحيا بفرصة العمل التي تضمن له دخلا ماديا لإعالة عائلته، ومسكنا بوسط العاصمة . هذه القصة -التي رواها ناشط حقوقي- ليست القصة الوحيدة التي تُلقي الضوء على الوسائل التي كان يتّبعها جهاز مباحث أمن الدولة للتجسس على جميع المصريين بشكل عام، وعلى الأخص النشطاء المعارضون؛ فبجانب سيطرة الجهاز على كافة الأمور وتحكمه في كل التعيينات بأي وظائف حكومية صغيرة، وكون تقاريره هي التي تتحكم في اختيار وزراء الحكومة وأساتذة الجامعات والمحافظين ورؤساء المدن وحتى أصغر وظيفة؛ إلى جانب ذلك لجأ جهاز مباحث أمن الدولة إلى تجنيد فئات اجتماعية وأصحاب مهن عديدة كالبوابين وسماسرة العقارات؛ لإجبارهم على التجسس على نشطاء المعارضة. وتكشف الشهادات التي لم يكن أصحابها يستطيعون الحديث قبل الثورة أن الجهاز كان يعقد اجتماعات شبه دورية بالبوابين والسماسرة؛ لمناقشة خطط التجسس على السكان، ولا يزال سماسرة العقارات -حتى بعد قيام الثورة- ملزمون بالإبلاغ تفصيليا عن الشقق التي يقومون بتأجيرها. اجتماعات البوابين يقول عربي حامد، بواب إحدى العمارات بوسط القاهرة ويعمل أيضا سمسارا: "كانوا يعقدون لنا اجتماعا كل أسبوعين في قسم شرطة عابدين مع رئيس المباحث، واجتماعا آخر تقريبا كل شهر في مديرية أمن القاهرة، كان يحضره ضابط من مباحث أمن الدولة، وكانوا يطلبون منا الإبلاغ عن أي ساكن مثير للشك، وأحيانا يطلبون منا معلومات عن ساكن محدد.. ولم نكن نستطيع الرفض؛ لأنهم كانوا يهددونا بتلفيق القضايا، كما أننا نضطر أساسا لدفع رشاوى إجبارية لأمناء الشرطة كي يتركونا نعمل" ويستطرد: "ذات مرة كان فيه اجتماع في المديرية، وطلب مني ضابط أمن الدولة معلومات عن ساكن عندي ملتحي، وقدّمت له المعلومات التي طلبها، وبعدها بحوالي 24 ساعة حضروا فجرا وقاموا باعتقاله". ويروي سيد عبد الرحمن -وهو بواب إحدى العمارات بمنطقة الدقي- قائلا: "كنا نتعرض للسب في الاجتماعات التي يأخذوننا إليها في مديرية أمن الجيزة، وفي بعض الاجتماعات كان ضابط أمن الدولة يعرض علينا صورا لبعض الأشخاص ويقول: إذا رأينا أي واحد منهم في المنطقة يجب أن نُبلغ قسم الشرطة". مراقبة الإيجارات يقول بدر إسحاق، وهو صاحب مكتب عقارات بوسط القاهرة: "عندما نقوم بتحرير عقد جديد لشقة بنظام قانون الإيجار الجديد أو الشقق المفروشة نقوم بتسليم قسم شرطة عابدين صورة للعقد، وصورة من بطاقة الرقم القومي أو جواز السفر الخاص بالمستأجر، وأحيانا كان يطلب منا ضابط مباحث أمن الدولة -في الاجتماعات التي كان يعقدها لنا بمديرية أمن القاهرة- معلومات عن ساكن بعينه، وأحيانا أخرى يعطوننا صورة واسم شخص محدد، ويطلبون منا إبلاغهم إذا جاء لطلب إيجار شقة"، ويتابع: "وبرغم قيام الثورة؛ فإنني لا أزال أقوم بإبلاغ قسم الشرطة ببيانات الشقق التي أقوم بتأجيرها وأسلمهم نفس البيانات التي كنت أسلمها من قبل؛ لكن لم يعقدوا لنا اجتماعات منذ الثورة". ويقول سيد عثمان، وهو صاحب مكتب عقارات بمنطقة عابدين: "لا يمكن لأي سمسار أن يعمل إذا رفض توفير المعلومات التي كان يطلبها ضباط أمن الدولة؛ لكن الحمد لله، الثورة خلصت المصريين منهم". تجسس على المعارضين يروي جمال عيد -المحامي الحقوقي ومدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان- قصة بواب العمارة التي كان يقع فيها مقر مؤسسته؛ قائلا: "ألقوْا القبض على البواب دون اتهام محدد، وضغطوا عليه ليتجسس علينا وينقل معلومات عن المؤسسة، وعندما أطلقوا سراحه جمَع متعلقاته وذهب إلى قريته بالصعيد؛ لكننا ذهبنا إليه وأقنعناه بالعودة وعدم الخوف، ووعدناه بمساندته، وفعلا دخلنا في مواجهة مع أمن الدولة، وهددنا بفضحهم وإقامة دعوى قضائية فتركوه وشأنه. بالنسبة للناشطة السياسية والإعلامية البارزة جميلة إسماعيل لم تتوقف وسائل التجسس عليها -خلال الفترة التي سُجن فيها زوجها أيمن نور- هي وأبرز المعارضين لنظام الرئيس السابق حسني مبارك عند حد الاستعانة بالبوابين والسماسرة؛ لكنها امتدت لفئات ومهن أخرى مثل: عامل الجراج، والسائق الخاص. وتقول إسماعيل: "أمن الدولة كان دائما يحاول اختراق الحياة الخاصة للمعارضين، وبالنسبة لي كان الأمر يمتد إلى محاولات تجنيد عدد كبير من المحيطين بي أو الذين يقومون ببعض الأعمال في الدائرة الضيقة المحيطة بي، وتحدث بيني وبينهم احتكاكات مباشرة بحكم هذه الأعمال؛ مثل السائق الخاص، والخادمة، وعامل الجراج، وعمال المطاعم، والسوبر ماركت الذين يُحضرون الطلبات إلى المنزل؛ هذا بجانب محاولات اختراق الحزب؛ حيث كنا نعرف أن نحو 20 %من أعضاء الحزب تم تجنيدهم من مباحث أمن الدولة".. وتتابع: "بعد دخول أيمن السجن اضطررت للاستغناء عن السائق الخاص، وكنت أقود سيارتي بنفسي؛ تجنبا لمحاولات التجسس عليّ، وقد أخبرني بعد الثورة عدد من عمال مطاعم كنت أتعامل معها أن ضباط أمن الدولة كانوا يطلبون منهم التجسس على منزلنا". ويقول الناشط والمحامي الحقوقي أمير سالم: "أمن الدولة جعل المصريين جميعا يتجسسون على بعضهم البعض؛ لكني برغم كل شيء لا أتعامل بقسوة أبدا مع البواب مثلا؛ لأني أعرف أنه يتم إجباره للتجسس عليّ وهو مغلوب على أمره" . ويروي حمادة الكاشف -الناشط بالحزب الشيوعي المصري ومنسق اتحاد شباب الثورة- تجربته مع بواب العمارة التي يقع فيها مقر حزبه الذي كان يعمل بشكل سري قائلا: "الحزب الشيوعي المصري كان ممنوعا من العمل بشكل علني قبل الثورة؛ فكنا نعمل من خلال مقر مركز دراسات تابع لنا هو مركز "آفاق اشتراكية"، وكان بواب العمارة يمارس علينا في كثير من الأحيان مضايقات كثيرة؛ منها اعتراضه على صعود الفتيات إلى مقر المركز، وكنا نعرف أنه كان يقوم بتوصيل معلومات عنا إلى أمن الدولة؛ فأحيانا نعقد اجتماعا غير معلن ونفاجأ بسيارات الشرطة وضباط أمن الدولة يقفون أمام المقر، وبعضهم يجلس على المقهى الذي يقع أمام المقر مباشرة . عن وكالة الأنباء الألمانية (بتصرف)