شكّل إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن سحب قوات بلاده بالكامل من العراق نهاية العام الجاري مفاجأة من العيار الثقيل، خاصة في ظل التصريحات الأمريكية المتكررة بأن واشنطن تنوي الإبقاء على بعض القواعد العسكرية على الأراضي العراقية. وعلى ما يبدو فإن أوباما مصمم على أن يحتفظ بلقب "رجل المفاجآت"، وسارع الحزب الجمهوري بانتقاد أوباما؛ على اعتبار أنه يصفي إرث جورج بوش الابن سياسياً، ولكن قرار أوباما حوله العديد من علامات الاستفهام. ففي الفترة الماضية، قبل اندلاع الربيع العربي، حينما كانت إدارة أوباما تدرس الخيارات العسكرية حيال إيران، كانت المشكلة تتلخص في أذرعة إيران الطويلة داخل العراق، القادرة على مقاتلة الجيش الأمريكي، خاصة أن الحرس الثوري الإيراني عَبَر الحدود العراقية الإيرانية مراراً، وقام بعمليات داخل الأراضي العراقية، ووجوده داخل الأراضي العراقية ليس سراً بعد تسريبات ويكيليكس، بالإضافة إلى عشرات الميليشيات الشيعية التي دُرّبت في إيران منذ عقود طويلة يمتدّ بعضها إلى عصر الشاه. بل إن بريطانيا حينما صعّدت لهجتها ضد إيران وهدّدت عبر رسائل سرية بعمل عسكري أو دعم تمرد شعبي عام 2005 فوجئت برسائل إيرانية مضادة تهدد لندن باختطاف 100 جندي بريطاني يومياً من جنوب العراق إذا ما أقدمت بريطانيا على أي فعل عسكري طائش. هكذا تحوّل الوجود العسكري الغربي في العراق إلى شوكة في ظهر أمريكا وبريطانيا، ونقطة تفوّق لإيران، وكلما توترت العلاقات بين إيران والغرب تتصاعد العمليات العسكرية ضد الوجود الغربي في العراق. هكذا أصبح الانسحاب الغربي الكامل من العراق مطلباً عسكرياً ملحّاً إذا ما فكر الغرب في قصف إيران، أو التصعيد معها عسكرياً أو دبلوماسياً. وبعد أن أنهى الغرب عمليته العسكرية بنجاح في ليبيا، عاد الاهتمام مرة أخرى إلى الشام والعراق، ولا يمكن للغرب أن يقدم على عمل عسكري ضد سوريا تحت ذريعة حماية المدنيين كما فعلها في ليبيا؛ لأن إيران أرسلت رسالة تحذير شديدة اللهجة إلى الغرب عبر تركيا. وهكذا أصبحت إيران الآن هي رأس الأفعى لكل الذيول التي تقلق أمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط، يتساءل بعض الخبراء في تل أبيب وواشنطن عن جدوى شنّ حرب على لبنان من أجل دحر حزب الله، بينما الممول الرئيسي قابع في سلام في طهران.. السؤال نفسه يتكرر حول حسم الصراع في العراق أو حتى حينما يناقش فرضية التدخل العسكري في سوريا. إيران تمتلك مفاتيح كل هذه الملفات، بالإضافة إلى جانب كبير من الملف الأفغاني، وكسر إيران سوف يؤدي إلى قيام الغرب بتعديل الملفات العراقية والأفغانية وحتى لبنان والقضية الفلسطينية، وفقاً لما يريد بعيداً عن الأسد الفارسي المتحفز دائماً. ورغم أن السطور السابقة تبدو كأنها تنبئ بمواجهة عسكرية فإن العديد من الأقلام الأمريكية تنبأت بسيناريو آخر، يتمثل في وقوع العراق في دوامة من العنف والفوضى، فيصبح العراق هو فيتنام إيرانية، تماماً كما أدّت حرب فيتنام إلى إضعاف الولاياتالمتحدةالأمريكية لفترة طويلة، وكذلك الأمر مع حرب أفغانستان خلال القرن العشرين، والتي كان لها دور كبير في تفكيك الاتحاد السوفييتي. لذا فالغرب لن يسعى إلى مهاجمة إيران عسكرياً، سوف يقوم بإحياء الصراع الإيراني-العراقي التاريخي الأزلي، عبر إشعال العراق أولاً، وكل هذا سهل وبسيط مقارنة بالدخول في حرب مباشرة مع إيران النووية. كما أن عودة الغرب عسكرياً إلى العراق أمر مضمون؛ فالعراق في واقع الأمر بلا حكومة مكتملة، ومنذ الانتخابات التي جرت العام الماضي وحكومة نوري المالكي غير مكتملة ولا تزال تشكّل حتى اليوم! والأجهزة الأمنية هزيلة، ووزارة الدفاع والداخلية أشبه بالوزارات الفخرية، واشتعال دوامة العنف في العراق حتى دون أيادٍ خارجية غربية أمر مضمون، في ظل سعي إيران إلى الهيمنة الكاملة على العدو التاريخي. وهكذا من المرجّح أن يطلب العراق في مرحلة لاحقة قوات حفظ سلام دولية، علماً بأن الغرب احتل أفغانستان منذ عام 2001 وحتى اليوم على اعتبار أنه قوات حفظ سلام دولية، كل ما هو مطلوب من العراق الجديد هو إنهاك إيران أولاً قبل أن يدخل الناتو في العراق؛ لحماية المدنيين على الطريقة الليبية. لذا.. الانسحاب الأمريكي من العراق ليس نهاية للحرب، بل بداية مرحلة جديدة تمثل إيران كذلك.