قام الصحفي السعودي الأستاذ جميل فارسي بكتابة مقال عن مصر بعنوان: "لا تظلموا مصر".. قال فيه عن مصر الكثير، والذي لو حاول مصري أن يقوله عن بلده ما استطاع أن يقوله؛ لأن المصري لو قالها ما سُمعت، ولو سُمعت ما صُدقت. فمؤخرًا أصبحت فكرة العرب عن المصريين سيئة بصورة شديدة، لا يرون في المصري إلا الرجل الذي جاء إلى بلادهم حتى يأخذ أموالهم، وينسون أن هذه الأموال لا يأخذها المصري من فراغ؛ ولكن عن عمل وكدّ، والأكثر أنه عمل يحتاجون هم إليه، ولولا حاجتهم ما جلبوا المصريين للعمل في بلادهم. ولكنهم يصرون على أن عمل المصريين في بلادهم هو نوع من الاستجداء؛ لأن مصر بلد فقير وليس به بترول مثل بلادهم، ويصمون المصريين بأنهم لا أخلاق لهم؛ حتى إن بعض الدول تضرب مثلًا بأن الهندي إذا جاء بلدهم جلب هنديًّا آخر؛ ولكن المصري إذا جاء خلع من بلدهم مصريًّا كان موجودًا؛ وذلك كناية عن طمع المصريين. يزيد ذلك على الإهانات التي يلقاها المصري في جميع الدول العربية، والذلّ للكفيل الذي يكفله، ولا يستطيع المصري الخروج من البلد إلا إذا رضِيَ الكفيل عنه؛ لأنه دائمًا يحتجز جواز سفره ويجعله تحت رحمته.. ومع كل أسف، فهذا ما وصل إليه المصري من مهانة في الثلاثين عامًا الماضية؛ حتى أصبح لا يستطع أن يرفع رأسه أبدًا في أي مكان. وحتى أصبحت الدول العربية تقول على البضاعة السيئة: "دي مصرية"، مثلما ننعت نحن البضاعة قليلة المستوى "بالتايواني". لقد نسي الجميع ما كان من مصر لهم في الأيام الخوالي، وأنه لم يتدهور إلى هذا الوضع سوى بتدهور النظام بأكمله، وأن هذه فترة مؤقتة في عمر المصري. فالمصري بطبعه لم يتعود معايرة الآخرين بما فعل لهم، وحتى إذا تحدث عن نفسه؛ فدائمًا ما يذكر التاريخ والماضي حتى لا يُفهم أنه يعاير الآخرين على ما صنع لهم في يوم من الأيام، وإذا حدث وتحدث يُقال عنه إنه مصاب بالشيفونية المصرية، والغرور وحب الذات. ولذا عندما قرأتُ مقالًا هذا الرجل تعجبت من شدة صدقه وإنصافه للمصرين، ومن الحقائق التي قالها والتي ربما لا يعرفها الكثير من الشباب العربي حاليًّا؛ بل الشباب المصري أنفسهم استكانوا وصدّقوا أنهم طوال حياتهم بهذا السوء. ربما تكون أجيالنا التي عاصرت عصورًا أخرى لم يكن بها المصري مهانًا هي من تعرفها، ومع ذلك نخجل من ذكرها؛ حتى لا يقال عنا إننا نعايرهم.. وعلى فرض أننا ذكرناها؛ فإننا نقابل بالاستهجان وعدم التصديق. حتى حرب أكتوبر التي شهد لها العالم أجمع وأصبحت تُدرّس خططها في الكليات الحربية في العالم بأكمله، نرى الشباب العربي يشكّك فيها، ويتحدث عنها كما يتحدث عنها الصهاينة؛ مؤكّدين أن إسرائيل قد فازت بها. وسوف أذكر لكم بعضًا مما قال الرجل؛ حتى تعرفوا أنه لا يزال هناك من يحب مصر، ويعرف الكثير عنها، ويعلم جيدًا أن لها أيادٍ بيضاء على الكثيرين؛ ولكنهم مع الأسف نسوا ما فات وتنكّروا له، وليس أسوأ في الحياة من إنكار الجميل.. وحتى نعرف نحن أننا لم نكن دائمًا هكذا، وأن هناك أملًا بأن نتغير: "يخطئ من يقيّم الأفراد قياسًا على تصرفهم في لحظة من الزمن أو فعل واحد من الأفعال، ويسري ذلك على الأمم؛ فيخطئ من يقيّم الدول على فترة من الزمان, وهذا مع الأسف سوء حظ مصر مع مجموعة من الشباب العرب الذين لم يعيشوا فترة ريادة مصر". "تلك الفترة كانت فيها مصر مثل الرجل الكبير؛ تنفق بسخاء وبلا امتنان، وتقدم التضحيات المتوالية دون انتظار للشكر". هكذا بدأ الرجل حديثه عن مصر؛ حيث قال إنها ظُلمت مع كل من تحدث عنها؛ وخاصة الشباب العرب، وقال إنها أعطت الجميع بسخاء ودون انتظار شكر من أحد. ثمّ بدأ حديثه للشباب العرب وذكّرهم بأمجاد مصر، وأن جامعة القاهرة هي من كانت تقوم بتعليم شباب العرب دون أي رسوم دراسية، وكانت تعطي جوائز للمتفوقين منهم مثلهم مثل المصريين تمامًا. وكيف كانت مصر تبعث بالمعلمين للدول العربية المحتلة ليتعلموا العربية، على حساب مصر، دون أي نفقات تدفعها الدول العربية. ثمّ أكمل: "هل تعلم أن أول طريق مُسفلت من جدة إلى مكةالمكرمة كان هدية من مصر؟ وأن حركات التحرر العربي كانت مصر هي صوتها، وهي مستودعها وخزنتها.. وكما قادت حركات التحرير؛ فإنها قدمت حركات التنوير. كم قدمت مصر للعالم العربي في كل مجال، في الأدب، والشعر، والقصة، وفي الصحافة والطباعة، وفي الإعلام، والمسرح، وفي كل فن من الفنون؛ ناهيك عن الدراسات الحقوقية ونتاج فقهاء القانون الدستوري". ثمّ ذكر كيف كانت مصر رائدة الدراسات الإسلامية، ودراسات القرآن وعلم القراءات، وأن الأزهر كان له دور عظيم في حماية الإسلام، وله فضل في تقديم الحركات التربوية الإصلاحية، ولم ينسَ الكاتب تعداد دور مصر على مستوى الحركات القومية التي كانت مصر وقودها؛ حتى انكسر المشروع القومي بهزيمة 67. وعن هزيمة 67 قال: "وإن انكسر المشروع القومي في 67؛ فمن الظلم أن تحمل مصر وحدها وزر ذلك؛ بل شفع لها أنها كانت تحمل الإرادة الصلبة للخروج من ذل الهزيمة. إن صغر سنك يا بنيّ قد حماك من أن تذوق طعم المرارة الذي حملته لنا هزيمة 67؛ ولكن دعني أؤكّد لك أنها كانت أقسى من أقسى ما يمكن أن تتصور؛ ولكن هل تعلم عن الإرادة الحديدية التي كانت عند مصر يومها؟ أعادت بناء جيشها؛ فحوّلته من رماد إلى مارد.. وفي ست سنوات وبضعة أشهر فقط نقلت ذلك الجيش المنكسر إلى أسود تصيح "الله أكبر"، وتقتحم أكبر دفاعات عرفها التاريخ". وتحدّث جميل الفارسي عن نفق الشهيد أحمد حمدي، والذي جعلته مصر رمزًا كبيرًا؛ مع إنه مجرد اسم لجندي استشهد في الحرب؛ فأصبح اسمه كبيرًا، ثم استرسل حتى قال: "إن مصر تمرض؛ ولكنها لا تموت، إن اعتلّت ومرضت اعتلّ العالم العربي، وإن صحّت واستيقظت صحُّوا.. ولا أدل على ذلك من مأساة العراق والكويت؛ فقد تكررت مرتين في العصر الحديث، في إحداها قتلت المأساة في مهدها؛ بتهديد حازم من مصر للزعيم عبد الكريم قاسم -حاكم العراق- عندما فكر في الاعتداء على الكويت؛ ذلك عندما كانت مصر في أوج صحتها". ولم يتجاهل الرجل المنصف ذِكر وضع الدول الخليجية قبل ظهور البترول بها، ومواقف مصر معها بقوله: "هنا بعض نبذات قبل اكتشاف وخروج البترول.. توفيق جلال كان رئيس تحرير جريدة الجهاد المصرية, وتوفيق نسيم كان رئيس وزراء مصر, وحدثت مجاعة وأمراض أزهقت الآلاف من الأرواح بأراضي الحجاز.. كتب توفيق جلال في صدر صحيفته إلى توفيق نسيم -رئيس وزراء مصر- يقول: من توفيق إلى توفيق, في أرض رسول الله آلاف يموتون من الجوع وفي مصر نسيم"!! أصدر توفيق نسيم أوامره فورًا, وعبرت المراكب تحمل آلاف الأطنان من الدقيق والمواد الغذائية, وآلاف الجنيهات المصرية التي كانت عملتها أعلى وأقوى من العملة البريطانية؛ غير الصرّة السنوية التي كانت تبعث بها مصر, وكانوا يشكرون مصر كثيرًا على ذلك". ثمّ ذكر أن مصر كانت ترسل إلى الكويت المدرسين بأجور مدفوعة من مصر، وأن ليبيا كانت تعتبر جزءًا من وزارة الشئون الاجتماعية المصرية، ولم ينسَ مذكرات الزعيم الجزائري أحمد بن بلة. "مذكرات الثوري العظيم, أحمد بن بلة وقيادات الثورة الجزائرية تشهد, وهم يقولون: مهما قدّمنا وقدّمت الجزائر لمصر؛ فلن نوفّي حق مصر علينا، وما قدمته لنا".
وأضاف الفارسي أن مصر هي التي وقفت بجانب الكثير من الشعوب العربية، وقد استقبلت أيضًا ثوار دول غير عربية، أمثال: جيفارا، وكاسترو، ونهرو، وساكارنو، والكثيرين.. وفي النهاية اختتم جميل الفارسي نثره الرائع في حب مصر قائلاً: "مصر التي تعطي بسخاء لا يمكن أن تغدر.. مصر التي تجمع وتحتضن لا يمكن أن تفرق وتقتل.. مصر التي تؤوي لا يمكن أن تخون.. هذه هي مصر الصابرة الآمنة المؤمنة المحتسبة.. يا أيها السفهاء يا من تتطاولون على مصر وشعبها، هذه هي مصر العظيمة؛ فمن أنتم؟ هذا ما قدمته مصر للعرب والعالم؛ فماذا قدمتم؟ مصر هي بلاد الشمس وضحاها، غيطان النور، قيامة الروح العظيمة، انتفاض العشق، اكتمال الوحي والثورة، مراسي الحلم، العِلم والدين الصحيح، العامل البسيط، الفلاح الفصيح، جنة الناس البسيطة. القاهرة القائدة الواعدة الموعودة، الساجدة الشاكرة الحامدة المحمودة، العارفة الكاشفة العابدة المعبودة، العالمة الدارسة الشاهدة المشهودة.. سيمفونية الجرس والأذان، كنانة الرحمن، أرض الدفا والحنان، معشوقة الأنبيا والشُعرا والرسامين، صديقة الثوار، قلب العروبة النابض الناهض الجبار، عجينة الأرض التي لا تخلط العذب بالمالح، ولا الوليف الوفي بالقاسي والجارح، ولا الحليف الأليف بالغادر الفاضح، ولا فَرح بكره الجميل بليل وحزن إمبارح، ولا صعيب المستحيل بالممكن الواضح، كوني مصر دليل الإنسانية ومهده". وختامًا.. أتوجه بالشكر الشديد للصحفي الكبير جميل فارسي، وإضافة صغيرة من عندي للختام: مع أني بكيت كثيرًا عندما قرأت مقالتك؛ إلا أنني أريد أن أضيف كلمة صغيرة: "مصر التي لن تبكي أبداً وستنهض ثانية من وسط الرماد لتستعيد مجدها".