منذ بداية الثورة المصرية وأنا أتساءل: أين رجال الدين؟ أين تنبيهاتهم وخطبهم النارية ووقوفهم بجانب رغبات الشعب وطلباته؛ في مواجهة الحكام الفاسدين وأتباعهم الظالمين، فلم أسمع سوى فتاوى بأن المظاهرات حرام، وأن الخروج على الحاكم فسق، وحتى لو ظلم فحسابه عند الله تعالى. بل سمعت من يسخر من الأخبار التي تبثها الوكالات الأجنبية والعربية المشهود لها بالمصداقية قائلا: كيف يقولون إن المظاهرات في التحرير مليونية، في حين أنه لا يمكن أن يستوعب أكثر من بضعة آلاف!!
موقف رجال الدين المصريين لم يكن أبدا هو الشائع خلال عصور التاريخ المصري قديمه وحديثه؛ فمنذ عهد الإله آمون وكهنته ومحاربتهم للإله آتون الذي نادى بتوحيده الملك إخناتون، فكان للكهنة الدور الأعظم في تهجير وتكفير الملك، مثيرين سخط الشعب عليه.
فالدين له فعل السحر بل أكثر في نفوس المصريين منذ قدم التاريخ، وكان رجال الدين دائما لهم المبادرة في توعية الناس، وحثهم على المطالبة بحقوقهم، وهذه مجرد نماذج قليلة لرجال دين مصريين قادوا شعبنا لمواجهة من ظلموه واستغلوه..
الشيخ السادات كان الشيخ محمد السادات من أكبر الشيوخ مقاماً وأعظمهم شأناً وأوسعهم جاهاً وثروة، وأعزهم منزلة بين الناس؛ لأخلاقه الكريمة ولنسبه الشريف، حيث كان ينتمي للسادة الأشراف من سلالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن وصلت الحملة الفرنسية إلى القاهرة، واستقرت الأوضاع ل"نابليون" فيها، قام بتشكيل "الديوان"، وهو مجلس يمكننا أن نشبهه بمجالس الحكم الانتقالي في زماننا الحالي، وكان هذا الديوان يتكون من 9 أعضاء من شيوخ الأزهر، وكانت مهمته هي الوساطة بين شعب مصر ونابليون، أي أنه كان مجرد واجهة مصرية لأوامر نابليون، وبالمقابل فإن عضوية الديوان كانت منصباً يشار لصاحبه بالبنان، وتكفل عضوية الديوان لصاحبها العز والجاه والنفوذ، ولكن الشيخ السادات أعرض عن هذا كله، ورفض تكليف نابليون له بالمشاركة في الديوان..
وعندما قامت ثورة القاهرة الأولى اتهمه الفرنسيون بأنه كان المحرض الرئيسي عليها، وتوافرت الأدلة على ذلك بالفعل، الأمر الذي كانت عقوبته الوحيدة هي الإعدام، ولكن نابليون رأى أن إعدام الشيخ السادات سيثير مشاعر الناس، ويجعل منه شهيداً، فلم يقتله..
وحين ثارت القاهرة للمرة الثانية في عهد كليبر، اتُّهم الشيخ السادات من جديد بتزعّم الثورة، وتذكّر كليبر تصرّف نابليون فلم يقتل الشيخ السادات، لكنه فرض عليه غرامة باهظة (حوالي 150 ألف فرانك)، فلما رفض أن يدفعها أمر بسجنه في القلعة.
ولم يكن موقف الشيخ السادات المُعادي للفرنسيين؛ لمجرد أنهم أعداء محتلون للوطن، ولكنه كان موقفا عاما ضد الظلم والطغيان التزمه الرجل طوال حياته مهما كلّفه هذا..
فنجده يقف في وجه الوزير التركي حسن باشا الجزايرلي حين أوفدته الدولة العثمانية سنة 1786 إلى مصر؛ لمحاربة المماليك واستعادة سلطتها المطلقة في مصر، فقد أسرف حسن باشا في الطغيان، واستباح أموال المماليك، وقبض على نسائهم وأولادهم وأمر ببيعهم في أسواق الرقيق، زاعماً بأنهم ملك لبيت المال، فذهب إليه الشيخ السادات، وقال له: "أأنت أتيت إلى هذا البلد وأرسلك السلطان لإقامة العدل ورفع الظلم كما تقول، أم لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحرمات؟"، فقال حسن باشا: "هؤلاء عبيد لبيت المال"، فأجابه السادات: "هذا لا يجوز، ولم يقل به أحد"، فغضب الباشا على السادات، وهدده بأن يبلغ السلطان بمعارضته لأوامره، فلم يعبأ السادات بتهديده، وأصر على معارضته حتى أفحمه وأجبره على تغيير رأيه.
كان السادات في موقفه هذا معارضاً لسياسة الدولة العثمانية ومتحدياً مبعوثها، ومؤيداً للمماليك الذين كانت تعدهم الدولة من العصاة.
وقف الشيخ محمد السادات هذا الموقف وهو أعزل لا سلاح معه إلا سلاح الحق، وقاوم إرادة وزير من وزراء الدولة جاء على رأس جيش ليعيد مصر إلى سلطة الدولة العثمانية، ولا يقف مثل هذا الموقف وخاصة في ذلك العصر إلا من كان على درجة كبيرة من الشجاعة، فنجد "الجبرتي" يقول عن الشيخ السادات: "فاشتد غيظ حسن باشا منه، وقصد البطش به، فحماه الله منه ببركة الانتصار للحق، وكان الباشا يقول لم أرَ في جميع الممالك التي دخلتها من تجرّأ على مخالفتي مثل هذا الرجل.
ابن تيمية لم يترك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أمراً صغيراً أو كبيراً في السعي لصد ومقاومة التتار إلا فعله، وكان رحمه الله سبباً قوياً من أسباب نصر المسلمين على التتار في زمنه، فلقد حثّ الناس على الجهاد ضد التتار بالنفس والمال، وذلك من خلال دروسه وخطبه الحماسية وسعيه المشرف لمقابلة "قازان" ملك التتار على العراق والشام، وقد قال الشيخ كمال الدين ابن الأنجا الذي كان مع ابن تيمية في ذلك اللقاء العظيم: كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدّث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان، وأن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة سأل: من هذا الشيخ؟ فإني لم أرَ مثله ولا أثبت قلباً منه، فقال الشيخ للترجمان: قل لقازان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومؤذنون.. وأبوك وجدّك كانا كافرين، وما عملا الذي عملت، على هذا عاهدا فوفّيا، وأنت عاهدت فغدرت.. ثم خرج رحمه الله تعالى مكرماً معززا..
وكان سبباً لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم.
كما حث السلطان على الخروج لقتال التتار، وفي عام 700 ه وردت الأخبار إلى دمشق بقصد التتار بلاد الشام، فاستعد الشيخ لإلقاء المواعظ والدروس في الجامع الأموي، وتحدّث الناس بخروج السلطان من القاهرة بعساكره، ولكن فوجئ الناس بعدول السلطان عن الخروج، ثم خرج ابن تيمية إلى نائب السلطان، فقوّاه وطيب قلبه، ثم أشاروا على ابن تيمية بالخروج للسلطان، فلم يدرك السلطان إلا وقد دخل القاهرة، وقال له أثناء مقابلته إياه: "لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنه"، وقال أيضاً: "إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن".
ونتيجة لجهود ابن تيمية استعدّ السلطان للخروج مع العساكر المصرية إلى الشام، وفي الثاني من رمضان التقى الجيشان في ساحة "شقحب" وأفتى ابن تيمية بالفطر مدة قتالهم.. وقتل من التتار الكثيرون، ونصر الله المؤمنين.
العز بن عبد السلام وصل العزّ بن عبد السلام إلى مصر سنة 639ه، فرحّب به الملك الصالح نجم الدين أيوب وأكرم مثواه، ثم ولاّه الخطابة والقضاء. وكان أول ما لاحظه العزّ بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك (وهم مملوكون لغيرهم) بالبيع والشراء وقبض الأثمان والتزوّج من الحرائر، وهو ما يتعارض -في نظره- مع الشرع الإسلامي؛ إذ هم في الأصل عبيد لا يحقّ لهم ما يحق للأحرار. فامتنع أن يمضي لهم بيعاً أو شراء، فتألّبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه بدوره فتوى العزّ، فأمره أن يعْدل عن فتواه، فلم يأتمر بأمره، بل طلب من الملك ألا يتدخل في القضاء؛ إذ هو ليس من شأن السلطان، وأدّى به إنكاره لتدخّل السلطان في القضاء أن قام فجمع أمتعته ووضعها علي حماره، ثم قال: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"؟ إشارة منه إلى الآية القرآنية. ويروى أنّه تجمّع أهل مصر حوله، واستعدّ العلماء والصلحاء للرحيل معه، فخرج الملك الصالح يترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الشرع. فاقترح العزّ على الأمراء المماليك أن يعقد لهم مجلساً وينادي عليهم بالبيع لبيت مال المسلمين. وعندما نصحه أحد أبنائه بألا يتعرّض للأمراء خشية بطشهم، ردّ عليه بقوله: "أأبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله؟".
القمّص سرجيوس حظي تاريخ مصر بعدد من البطولات والمواقف الإيجابية للأقباط؛ أبرزهم القمص سرجيوس صاحب شعار "يحيا الهلال مع الصليب" خلال ثورة 1919 الذي تبناه حزب الوفد فيما بعد، وفقا لما جاء في مذكراته.
سرجيوس هو أول رجل دين مسيحي يعتلي منبر الأزهر الشريف، حيث ظل فيه نحو 5 أشهر، يخطب في الناس بصحبة الشيخ محمود أبو العبر، ومناديا بالوحدة الوطنية والكفاح ضد الإنجليز، حتى لقبه سعد زغلول ب"خطيب الثورة". ووفقا لكتاب "الدين والسياسة في مصر المعاصرة- القمص سرجيوس" للمؤلف محمد عفيفي وُلد سرجيوس في جرجا بمحافظة سوهاج عام 1883 وتوفي في 5 سبتمبر 1964 وبين الميلاد والوفاة زخرت حياته بالعديد من الأحداث المثيرة، خاصة بعد أن دخل عالم الكهنوت باسم "مرقص سرجيوس" قبل أن يرحل للقاهرة في 1899.
تمتع في خطبه بأسلوبه المثير والساخر؛ ففي مظاهرة طلب من المتظاهرين أن يرددوا وراءه "يحيا الإنجليز"! فأبدوا استغرابهم، ثم هتفوا قبل أن يوضّح لهم قائلا: "نعم يحيا الإنجليز؛ لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحّدة المقدسة الملتهبة".
هؤلاء وغيرهم كثيرون عرفوا تماما معنى الحديث الشريف: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، ولن أنسى شيخنا الشعراوي رحمة الله عليه، فقد كان دائم الانتقاد لسياسات الرئيسين السابقين السادات ومبارك، فكان يتم إرساله لدول عربية بحجة التبادل الثقافي، ولكنها كانت أقرب للمنفى، وعندما طالبه أبناؤه والمحيطون به بأن يكفّ عن الهجوم؛ هربا من المنفى، قال بشجاعة: "مش ممكن هيودّوني مكان مافيهوش ربنا".
هذه هي روح رجال الدين المصريين التي لا أدري أين ذهبت في أحداث مصر الأخيرة؟