كنت أعرف الفرق بين الجهل والمعرفة، وكان طبيعيا ومنطقيا أن المعرفة هي الأفضل، فلو تصوّرت الجهل هو شرفة الحجرة الضيقة التي لا ترى منها سوى ما يساوي عرضها الضئيل لكانت المعرفة هي هذا التراس الواسع جدا.. هل من يملك المعرفة يصل للحقيقة؟؟ الحقيقة أنه يقترب، ربما لأنه لا توجد حقيقة، أو لا توجد حقيقة كاملة، أو أنه من كثرة المعرفة يجنّ في النهاية..
هل يمكن أن يكون الجهل أفضل؟؟ الجهل بمجريات الأمور، فالمعرفة والجهل هنا ليست مفاهيم فلسفية خاصة بوجودنا في الحياة وتصوّر العالم الآخر، لا؛ إنها معرفة ما هو خارج دائرة عملك وأسرتك، ألا تنتهج المشي جنب الحيط، هل المعرفة تزيد من تعاستك وتضخّم الأمور بالنسبة لك فلا تجد سبيلا مشرقا في الحياة؟!
أثبتت حادثة خالد سعيد أن منهج المشي جنب الحيط منهج فاشل، وأنه لو استشرى فسادا في مكان فسيطولك ولو سجدت له تعبّدا؛ لأن الفساد قوة غاشمة لا ترى ولا تفرّق، وفي سبيل فرض سيطرتها تكون كالعمياء..
كسرت حادثته تلك القواعد والتابوهات، كل منطق عاقل كان يردّد على مدار الأعوام الماضية أن الكلام في السياسة -ليس العمل بها حتى- هو طريق ملغّم نهايته مظلمة، ولنا في غيرنا قدوة ممن لم يكونوا على نفس درجة الحذر..
وحين زادت وسائل المعرفة وصارت واقعة التعذيب تنقل لك في بيتك، وتراها مسجّلة أمامك، صار البحث عن الحقيقة له تعريف آخر؛ لأن الحقيقة أصبحت هي من تبحث عنك وتصرخ في وجهك بوجودها، لعنة المعرفة التي تطاردك لتخبرك بأن الجهل المريح لم يعد اختيارا، لقد صرت تعرف وإن لم تكن تريد...
أنا ذهبت مثلك لصناديق الاقتراع، ذهبت وأنا أرى على مدار الساعة ما يثبت التزوير، ذهبت وأنا أعرف أن الإيجابية هي أحد المبادئ التي لا يجب التنازل عنها، وأن صوتك هذا هو سبيلك، أمانة لا بد أنك ستُسأل عنها يوما ما، وأن هذا البلد لو لم يتكلم أهله فلنذهب للجحيم معا في رحلة مشتركة..
وكل لحظة حتى الآن تثبت كذب المسرحية، وكل فيديو يوضع على شبكة الإنترنت يجعلك تجد البجاحة سلوكا مؤلما، وأنه لا يوجد من يجاهر بنقيصته لهذا الحدّ، ومشهد كل تلك السيارات الخضراء بلونها الغامق والقميء بعساكرها وضباطها ما زال يُشعرني بضآلة حجمي، حتى مع تذكّري المستمر بأننا الأكثر، الأقوى، الأحقّ وإن لم ندرك...
لكن الغريب أن كل تلك المعرفة التي تشكّلت لديّ لا يبالي بها الكثيرون، وفضّلوا عليها المكسب المادي؛ لأن الحياة التي يعيشونها من الصعوبة أنها لا تجعلهم يأخذون مواقف ضدّ الظلم، أو على أقلّ تقدير مواقف تمنع مهانتهم أكثر.. إن المعرفة لم تؤتِ دورها لديهم، ما زالوا يبيعون أصواتهم بمائتي جنيه وأقلّ، هذا المبلغ الذي سينتهي فور وصوله، ويعود صاحبه لحاله السيئ كما كان، والذي لم يجعل صاحبه يدرك أن الناخب الذي تكبّد عناء الدفع له ورشوته هو يعلم أنه يبتاع شيئا له قيمة، قيمة لا يعرفها صاحب الصوت نفسه، ويفرّط فيها بسهولة؛ لأنه يعلم يقينا أنها لن تحمل له أكثر من المدفوع، المعرفة هنا لم تجعل منهم أناسا أفضل، لم تجعل منهم ثوارا، لكن رسّخت لديهم وبشدة منطق أن هذا الحال قائم لا محالة ولن يتغير، فليتأقلموا معه ويخرجوا بكل المكاسب المتاحة..
إذن فمن نصرخ في آذانهم ليل نهار ليعرفوا حقوقهم يبدون لوهلة من الزمن وكأنهم لا يريدون هذا، هم يريدون الوضع كما هو قائم، والأسوأ أنهم أدمنوا فنّ الشكوى والمعاناة، فصارا موازيين لكل ظروفهم السيئة، وهنا يصبّ الإنسان جام غضبه على هؤلاء الجهلة العجزة المولعين بتلك الحياة البائسة، وللحظة تفقد كل إيمانك بالمعرفة والمستقبل والبلد و... و...
لكن الحقيقة أنك لا تستطيع أن تطلب من فقير معدم ألا يسرق ليأكل، أو تطلب من جاهل أن يعرف كل حقوقه الدستورية، بل ويطالب بها بقوة وعنف، إن التغيير الذي ننشده لن يتم عن طريق صناديق الاقتراع، إنه لن يتم إلا بإعادة الإنسانية والكرامة لهذا الشعب، الذي من طول ما فقدها أصبح لا يتعرّف عليها أبدا، هذه الأفكار التي لن يعلمها ويعيها ويدافع عنها بقوة سوى جيل خالد سعيد، التي آتت المعرفة ثمارها معهم، وجعلتهم يكتسبون رؤية مشهد أكبر من الصورة وليس ما أتاحته النافذة الضيقة...
إن البعض من هذه الأمة هم الموكّلون بإعادة كرامتها، ليس تفضّلا منهم لكن لزاما عليهم، هكذا قدّر لهم القدر أن يأتوا في تلك الفترة التاريخية ليكونوا منقذيها، وهو ليس بالعمل السهل ولا الهيّن، لكنه الحل الوحيد الباقي، فحتى لو كانت المعرفة مؤلمة لهذا الحد، فهي ضرورية لاستخدامها يوما ما..
تبين أن المعرفة ليست بهذا السوء، على أمل ألا تظل حبيسة العقول، وتخرج لحيز التنفيذ..