على مسافة 1200 كيلومتر من القاهرة- وتحديدا عند شمال خطّ عرض 22- يعيش أكثر من 20 ألف مصري؛ هم السكان الأصليون لبقعة غالية من أرض الوطن، وهي مدينة "شلاتين" والقرى التابعة لها، هؤلاء المواطنون رغم وصول حياة المدنية إليهم فإنهم ما زالوا يتمسّكون بطقوس خاصة في حياتهم. عندما أتيحت لي فرصة السفر إلى "شلاتين" شعرت من أول وهلة أن الأمر لن يكون يسيرا، ولكن الرغبة في التعرّف بعادات هذا المكان دفعتني لاتخاذ القرار، بالوصول إلى أبعد نقطة على حدود مصر الشرقية الجنوبية. قبل أن أصل إلى حدود "شلاتين" قابلتني الشمس بدرجة حرارتها المرتفعة، علاوة على قسوة الرطوبة التي لا يتحملها سوى أهل المنطقة، خاصة أن الصحراء كانت تحيطني من كل جانب، حتى لاحت مباني المدينة من بعيد، بعدما ظننت أنه لا حياة في هذا المكان. البيوت الحديثة نبتت من الأرض وبمجرد دخولي إلى الشوارع هناك وجدتها لا تختلف كثيرا عن العديد من المدن المصرية؛ فالمباني الحديثة منتشرة في شوارعها، ولاحظت وجود وحدات لامركزية لمعظم المؤسسات الخدمية، مثل التضامن الاجتماعي والتموين والصحة والاتصالات والمدارس وشبكات الطرق والكهرباء وغيرها، والبيوت الحديثة نبتت من الأرض بعد أن زرع بذورها سواعد مصرية خالصة ومخلصة، وبعد دخولي للمنطقة رأيت للمرة الأولى وجوه أبناء "شلاتين" التي تعبّر عن أصالة مصرية وطيبة قلب وصفاء ذهن؛ فالجميع هنا يبتسم في وجه الآخر وإفشاء السلام بينهم وبين أي ضيف ضرورة يتمسّكون بها، كما يتمسّكون بالعديد من عادتهم وتقاليدهم. المشروب الرسمي عند أهالي "شلاتين" هو "الجَبنة" الاندماج في الحياة المدنية استقبلني اللواء "علي شوكت عبد الرحمن" -رئيس الوحدة المحلية لمدينة "شلاتين"- والذي أشار إلى أن المدينة تضم 5 قرى؛ هي: (أبو حميرة، أبرق، أبو رماد، حلايب، ورأس حدربة) وعدد سكانها حوالي 20 ألف نسمة، حدودها الإدارية بعرض 135 كيلومترا مع الحدود الإدارية لمحافظة أسوان، وخط عرض 22 شمالا مع الحدود الدولية لدولة السودان عند "رأس حدربة". وأضاف أن كثيرا من أهالي المنطقة اندمجوا في الحياة المدنية، خاصة بعد بناء مساكن التوطين لهم -والتي جاءت على طراز مميز يحمي من حرارة الشمس- ووصل عددها إلى 172 وحدة، وتم إنشاء محطات لتوليد الكهرباء، وقريبا سوف يتم ربط المنطقة بالشبكة الموحّدة لجمهورية مصر العربية، هذا بخلاف عمليات تحلية المياه، والتي تنتج 4000 طن مياه يوميا. الاستقبال بالمشروب الرسمي بعدما انتهيت من حديثي مع رئيس الوحدة المحلية اصطحبني معه لتقديم المشروب الرسمي عند الأهالي بأحد خيامهم، وهو "الجَبنة"، ويعتبر هذا المشروب هو أهم واجب للضيافة عند أهالي "شلاتين"، والمشروب كما يقول "عبد العزيز محمد" الذي كان يقوم بإعدادها هو عبارة عن قهوة مخلوطة ب"القرفة والزنجبيل" يتم إعدادها على نار هادئة بعد الحصول على البن الخام وتحميصه داخل أحد الأواني المصنوعة من الصاج، وبعدها يتم طحنه داخل وعاء فخاري، ووضعه بعد ذلك في الماء الساخن لمدة 3 دقائق فقط، وبعدها يتم صبّه في فناجين صغيرة. والفرد من أبناء المكان قد يتناول منها أكثر من 40 فنجان "جَبنة" يوميا، وعلى الضيف ألا يترك أي بقايا للقهوة داخل الفنجان؛ لأنهم يعتبرون ذلك إهانة لهم، وما دام لم يقلب الفنجان على وجهه فمعناه أنه يريد المزيد، وأيضا عندما لا يرغب الأهالي في ضيف عندهم لا يقدّمون له هذا المشروب؛ تعبيرا عن اعتراضهم على وجوده.
هناك عدد من أبناء المنطقة يرفضون الانتقال إلى البيوت الحديثة "الشعلوجة" بدلا من الثلاجة دخلت إلى الخيمة والتقيت بصاحبها ويدعى "علي جمعة" وشرح لي محتويات خيمته، التي وجدت فيها العديد من الأشياء المعلّقة في سقفها، أو الموجودة بأركانها، وعرفت منه أنها تسمى "الشعلوجة" وهي بالنسبة لهم كالثلاجة التي تُستخدم لزوم حفظ الطعام بها وضمان طزاجته، وتصنع من ألياف النخيل وجلود الجمال، ووجدت أيضا سروج الجمال وبعض الهدايا التذكارية التي يقدّمونها للضيوف، التي تتولى السيدات صناعتها من جلود الإبل. وشرح لي "علي" أن بيته مصنوع من خشب "السلم"، وهو خشب قابل للثني، يتم إكسابه الشكل الدائري، وتغطيته من الخارج بسعف النخيل؛ لحمايته من حرارة الشمس والأمطار، أما من الداخل فيتم كساؤه بشعر الماعز وصوف الخراف. الشيطان في الحمام! والغريب أن هناك عددا من أبناء المنطقة يرفضون الانتقال إلى البيوت الحديثة التي أنشأتها الحكومة لهم، والسبب أن هذه البيوت بداخلها دورة مياه (حمام)، ويعتقدون أن الشياطين تسكنها، وأنه مكان نجس لا يجب أن يكون داخل البيت، ولو وافقوا على السكن بهذه البيوت، فهم يطالبون بعدم إضاءتها من الداخل؛ لأن ذلك من وجهة نظرهم يكشف "حُرمة" أهله. وفي أحد أركان الخيمة تحدّثت مع سيدة كانت ترتدي الزي التقليدي الفضفاض، الذي يسمى "التوب"، وعند حديثها معي قامت بتغطية وجهها بطرف طرحتها؛ كعادة سيدات المنطقة عند الحديث مع أي ضيف عليهم؛ فالمرأة هنا لا تظهر إلا داخل بيتها، ولا تخرج منه إلا للضرورة، وعملها يكون في المشغولات اليدوية التي يتوارثنها، ولكن الأمر يختلف عند الفتيات الصغيرات اللاتي يخرجن إلى التعليم. "العصيدة" وجبة أبناء القبائل الرئيسية كان حديثي مع هذه السيدة التي تدعى "عائشة" عن عاداتهم في الطعام والزواج، فقالت إن "العصيدة" تُعتبر الوجبة الرئيسية، ويتم إعدادها بغلي الدقيق مع الملح، وعجنهما جيدا بخشبة تسمى "الكشن"، ويضاف عليها بعد ذلك اللبن الرايب والسمن، علاوة على إعداد نوع من الخبز يطلق عليه "القبوريت"، هو عبارة عن دقيق معجون بالماء، يوضع داخل حفرة، عليها الرمال الساخنة لمدة 15 دقيقة، ويتم تقليبها على الوجهين؛ حتى تستوي، ليتم إزالة الرمل من عليها، وتنظيفها جيدا لتخرج خبزا لذيذا بعد ذلك. وهناك أيضا ما يسمى ب"الديفوت"؛ وهي وجبة تتكون من القمح المغلي في الماء، ثم يضاف إليه اللبن بعد ذلك، أما "السلول" فهو عبارة عن لحم ناضج، يتم تعليق شرائحه في إحدى الأشجار لمدة أكثر من 30 يوما، ثم يتم طحنها بعد ذلك؛ لتضاف إلى الطعام عند طهيه، هذا بخلاف لحوم الماعز والجمال التي يتم شيّها على الأحجار الساخنة بعد وضع شحم الذبيحة أسفلها. الخروج للجبال في الأعياد في الأعياد هناك أيضا طقوس خاصة؛ فهم يفضّلون قضاءها في الجبل؛ حيث يكون ذلك قبل بداية أول يوم العيد بأربعة أيام حتى بعد آخر أيامه بخمسة عشر يوما، وللزواج تقاليد خاصة عند أهالي "شلاتين" وتوابعها؛ فالفرح يستمر لأربعة أيام في أي وقت من السنة، عدا شهر "ربيع الأول"؛ لأنهم يفضّلون أن يحتفلوا فيه بمولد النبي فقط، اليوم الأول يكون يوم الحنة التي تكون على مستوى العائلة، ويكون هناك شخص بصحبة العريس طوال هذه الفترة، يمر معه على العائلات الأخرى؛ لدعوتهم للفرح، ويساعده في إعداد ملابسه، ويحضر له الحلاق وغير ذلك، ويسمى هذا الشخص ب"الوزير"، وفي هذا اليوم تقوم أم العريس بإحضار الحنة للأقارب، والبنت غير المتزوجة تقوم بوضع الحنة على يديها، أما المتزوجة فتضعها في يديها ورجليها. أطفال شلاتين يحلمون بدراسة الذرّة الرقص بالسيف في الأفراح في اليوم الثاني يستقبل أهل العريس الذبائح التي تهديها لهم العائلات الأخرى، واليوم الثالث هو يوم الحنة الكبرى، وفيه يجتمع أبناء القبائل برجالها وسيداتها، ويقوم الشباب بالرقص والمبارزة بالسيف حيث يمسك كل شاب بسيف ودرع من الجلد، ويقوم بالمبارزة، وأداء رقصة تسمى "الطنبور والدف"، وفي اليوم الرابع يجلس العريس في مكان يسمى "الكوجرة"؛ وهي مثل الكوشة، ويتم صناعتها من الخشب وسعف النخيل، وينتظر العروس التي تأتي بها خالتها أو عمتها ليدخل بها بعد ذلك. وكثير من العائلات في المنطقة أدركوا حياة المدنية، وأصبحت الزوجة تتكفّل بشراء الثلاجة والتليفزيون، وفي بعض الأحيان البوتاجاز، ولكن ملابسها يشتريها العريس، وشبكتها لا يتعدى سعرها ثلاثة آلاف جنيه، والعروسة بعد الزواج تظل لمدة أسبوعين لا تقوم بأي أعمال منزلية من "طبخ" وخلافه، وتتولى أمها القيام بهذا الدور، ومن العادات الموجودة أيضا أن الزوج هو الذي يتولى غسيل وتنظيف ملابسه، إلا في حالة مرضه أو عجزه فقط. القبائل جاءت من العراق والسعودية وعندما التقيت مع أبناء القبائل وجدت أنهم ينتمون إلى قبيلتين رئيسيتين؛ وهما "العبابدة" و"البشارية"، وتتفرع من كل قبيلة قبائل فرعية أخرى، وهم السكان الأصليون ل"شلاتين وحلايب" وما يجاورها، ومعظمهم حضروا من السعودية والعراق والأردن والسودان؛ ليقيموا في هذه البقعة، ويصبحوا جزءا منها، مُتمسكين بانتمائهم إلى مصر كوطن لهم. وتُعد قبيلة "العبابدة" أكبر وأقدم القبائل بالمنطقة، ويُقال إن نسبهم يرجع إلى الصحابي "الزبير بن العوام"، أما قبيلة "البشارية" فقد حضرت من الجزيرة العربية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وزحفت إلى المنطقة بعدما جفّت عنهم الأمطار، وهناك أيضا قبيلة "الرشايدة"، والتي أكد لي الشيوخ أنها جاءت من السعودية، وتعيش على أطراف "شلاتين". وجميع أبناء القبائل يتفاهمون مع بعضهم باللغة العربية، ولكن هناك لغة تسمى "الروتانا" يفهمها أبناء "العبابدة" فقط. تربية الجمال للرجال والمشغولات للسيدات وتربية الجمال والتجارة بها هو العمل الرئيسي لأهالي القبائل، وقد لجأ البعض إلى العمل في الصيد من البحر الأحمر، وتعتبر أيضا صناعة الجلود (بالطريقة اليدوية) من الصناعات الأساسية التي يعتمد عليها العديد من السكان، وتقوم السيدات عادة بهذا العمل، هذا إلى جانب تجارة التوابل والفاكهة، التي تتركز في سوق "شلاتين" القديم. 5 جنيه يوميا لكل تلميذ من الأشياء التي لاحظتها أيضا هناك وكانت لافتة للنظر إقبال الأطفال على التعليم، خاصة أن وزارة التعليم تحفزهم على ذلك؛ فالتلميذ يحصل على 5 جنيهات مقابل كل يوم دراسة، والوجبة الغذائية والكتب ومستلزمات الدراسة تقدم لهم مجانا، ووجدت أن طموحات التلاميذ وصلت إلى أن بعضهم يتمنى أن يصبح عالم ذرة وفضاء، أما الفتيات فطموحاتهن تتجه نحو مهنة الطب والتدريس. لم يكن هذا كل شيء في منطقة "شلاتين"، ولكن لدى أهلها الكثير من الأسرار، التي جعلتهم يتعايشون مع الطبيعة القاسية، راضين بمعيشتهم وحياتهم التي لا يعرفون غيرها ولا يقبلون بغيرها.