الطبيب النفسي ليس مجرد رجل يحمل على وجهه ملامح الحكمة والوقار، يُصغي إليك وأنت مستلقٍ على ال"شازلونج"، ثم يصف لك حالتك وعلاجها.. مع الأسف هذه الصورة النمطية هي السائدة عندنا.. والدكتور خليل فاضل -الباحث والطبيب النفسي- يكسر بكتابه المتميز "وجع المصريين" تلك الصورة، ويغادر مكانه خلف المكتب لينزل للشارع، يجسّ نبض الجسد المصري، يعاين ندوبه العميقة، ويسأله عن أوجاعه.. هذه هي رسالة كتاب "وجع المصريين".. "إلى الغَرقَى في قاع البحر والنهر.. الأشلاء والعظام المعجونة بحديد وزيت المركبات ودم الأسفلت.. المحترقين داخل القطارات والمسارح.. الموتَى على شواطئ الهجرة وفي عربات الترحيلات.. إلى كل الموجوعين لفقدان هؤلاء.. وإلى كل الموتَى على قيد الحياة.. أُهدي هذا النصّ الصريح والقاسي". هكذا استهل الدكتور خليل فاضل كتابه، بهذا الإهداء الموجع، الذي تلته ستة فصول من الوجع المصري العميق، غرس فيها المؤلف أصابعه في جروح أرواحنا وأجسادنا وأيامنا. الشارع وما هو مرتبط به من مخاطر ومخاوف يومية، الأسرة وما ينخر فيها من سوس الانهيار الشره، التربية والتعليم وتحوّلهما للمستحيل الخرافي الرابع، أجسادنا المصرية وما غزاها من مرض وسوء غذاء وعجز مبكر، سلامة صحتنا النفسية التي تجاوزت مرحلة "على المَحَكّ"، وإدمان المخدرات الذي تحوّل عند الكثيرين ل"نمط حياة". تلك العلل التي اجتاحت بنيان مجتمعنا، تحسّسها المؤلف وشخّصها وتتبّع أسبابها.
1- الشارع المصري وحالة التربص يقول المؤلف إن اهتمامه لا يتوقف عند الشارع كمجرد مكان، بل على حد قوله "بمعناه الأشمل والأعمق، بمعنى الشارع الذي يضم رجل الشارع؛ أي حياتنا العامة وسلوكياتنا اليومية". يتطرق د.خليل فاضل لافتقاد المصريين "الحميمية" المُميِّزة للشعب المصري، مؤكدا أن المصريين منذ منتصف السبعينيات بدأوا يفقدون تلك الميزة، ويتحولون لأشخاص منزوين متربصين بعضهم ببعض، سواء على مستوى أهل البيت الواحد، أو الجيران، أو حتى الجيرة المؤقتة في الطريق.. الأمر الذي أحدث أثرا خطير السلبية على تفاعلهم إنسانيا مع بعضهم. ثم يعرج الدكتور "فاضل" لظواهر لا تقلّ خطورة مثل "أطفال الشوارع" و"التربص المتبادل بين الأفراد" و"فساد القيم والأخلاق"، ويُرجِع تلك الكوارث لأمور مثل خداع المصريين أنفسهم؛ بتجاهل الحقائق، وتصديق كذبة أن كل شيء على ما يرام، فضلا عن وجود حالة من استعذاب الألم الناتج عن تلك الجروح. 2- بلاوي الأسرة يضع بعد ذلك المؤلف جسد الأسرة المصرية على منضدة الفحص، ويجس أوجاعها. إشكاليات شديدة الحساسية مثل وضع الأب في الأسرة، اكتئاب المرأة المصرية، المراهقة ومتاعبها، العنوسة، طلاق الأقباط، وأبناء المطلقين، يتطرّق لها بشكل مباشر وصريح، ويتصدّى لها بعرض النماذج وتحليل الحالات بشكل علمي، داعما حديثه بالأرقام والإحصائيات في ضوء القواعد العلمية الطب-نفسية. "إلى الغَرقَى في قاع البحر والنهر.. الأشلاء المعجونة بزيت المركبات ودم الأسفلت.. المحترقين داخل القطارات والمسارح.. الموتَى على شواطئ الهجرة وفي عربات الترحيلات.. وإلى كل الموتَى على قيد الحياة.." يصف الكاتب هذا الفصل بأنه الأهم؛ لأنه يعتبر أن الأسرة المصرية هي محور كتابه كله، ولأنها النواة التي يتكوّن منها المجتمع.. ويقرن وصفه هذا بتعمق شديد في الغوص في مشكلات الأسرة المصرية وهمومها الحياتية اليومية، بشكل عملي جدا يخلو من التغني بالشعارات الاجتماعية اللامعة. 3- التربية وتعليم القفز من فوق السور من الأسرة لموضوع لا يقل أهمية ينتقل المؤلف، فيتحدث عن مشكلة تربية وتعليم أجيال أبناء المصريين، الذين يُفتَرَض أن يكونوا -في أي بلد يحترم نفسه- حملة الأمل في مستقبل أفضل. يصف المنظومة التعليمية قائلا: "هنا تتولد لدى كل الشرائح الاجتماعية سمات، أقلها التربّص والتحفّز، الاستعداد للقفز فوق الأسوار وفوق الآخرين، عدم الانتماء، انعدام روح الفريق وفقدان التماسك واللُحمة التي كان من الممكن أن تجمع بين الطلاب". ثم يقرن قوله بالتدليل على صحته، من خلال الحديث المتعمّق عن أزمات التعليم والتربية في مصر، مثل العنف المدرسي، أزمة الثانوية العامة، وساوس الامتحانات، والتعليم الأمريكي كآلية للغزو الثقافي، وينهي الفصل باستعراض مشكلة الطالبة "آلاء" -صاحبة موضوع التعبير الشهير المعارض للسياسات، الذي كان موضوع الرأي العام منذ فترة- مع تحليل الأزمة ودلالاتها الواضحة والخفية. 4- عن الضعف الجنسي وأشياء أخرى ينتقل د. خليل فاضل من أوجاع الروح لأوجاع الجسد، حيث يتناول في هذا الفصل أهم المشكلات الصحية للمصريين، من تلوث للماء والهواء والغذاء، وانتشار لأمراض مثل السكري وأمراض القلب وجهاز المناعة، كما يتحدث عن العلاقة بين الطبيب والمريض، والصلة بين أمراض الجسد وأمراض النفس، ثم الجنس كموضوع طبي مهم جدا للمواطن المصري. وهو يبدأ حديثه في هذا الفصل بعبارة تستحق التأمل هي أن حياة المصري تتمحور بين الصحة والمرض، وهو قول يستحق النظر بحكم تخصص صاحبه وانغماسه في هذا المجال. 5- نفسية المواطن التي تهدد الأمن القومي ويعود المؤلف للحديث عن أمراض النفس -تخصصه الأساسي- حيث يستدعي خبراته الدراسية والعملية، ويقوم بتشريح النفسية المصرية، وما أصابها من علل وأوجاع، مثل الجنون والانتحار والاكتئاب، والجنون الاجتماعي. مؤكدا أن الصحة النفسية للمصريين تعتبر -وهو محق- مسألة أمن قومي. وهذا الفصل بالذات يعتبر من الأكثر ثراء وتأثيرا في الكتاب، أولا لكونه الأكثر ارتباطا بالخبرات المباشرة لمؤلف الكتاب، وثانيا لأن المرض النفسي أصبح له حضور لا يمكن إنكاره في المجتمع المصري. وهو ينتقد في هذا القسم من كتابه ثلاث ظواهر خطيرة، الأولى هي تداخل الاختصاصات النفسية والعصبية والعقلية، والثانية هي تداخل تخصصات علماء النفس مع الأطباء النفسيين، والثالثة هي اعتماد كثير من الأطباء على العلاج بالدواء؛ استسهالا دون محاولة للتعامل مباشرة مع مسببات المشكلة لو أمكن. 6- الإدمان ولعبة الموت يختم دكتور خليل فاضل كتابه الرائع بالحديث عن ظاهرة الإدمان، التي تحولت لغول يكاد يبتلع الشباب المصري، حيث يتناول موضوع تجارة وإدمان المخدرات، وعلاقة الأسرة بذلك، وانتكاسات المدمنين، ودور العشوائيات في لعبة الموت هذه. ويقرن حديثه -ككل فصول الكتاب- بالاستناد إلى الدراسات العلمية والأرقام والنماذج الإنسانية والتحليلات العملية. وينقل صورة قاتمة، ولكنها حقيقية، لتلك الظاهرة الكارثية، مع تقديم المقترحات العلمية العملية للتعامل الجدي مع تلك المشكلة. ويؤكد الكاتب أن تفاقم مشكلة الإدمان هو الوجع الأكبر للمصريين، ويصف تفاقمها أن تعاطي المخدرات قد أصبح ببساطة "مضغ اللبان" وطلب وجبة Take away. "وجع المصريين" كتاب ينبش في الجرح القديم كثيرا ما يقال تعليقا على كتاب يتعرض لمشكلات المجتمع: "وماذا بعد؟ أين الجديد في ذلك؟" الحقيقة أن كتابنا هذا يختلف كثيرا عن هذه النوعية من الكتب، فكتاب "وجع المصريين" ليس مجرد عمل نقدي، ولا هو مجرد بحث أكاديمي، بل هو بحث إنساني عميق المحتوى سلس اللغة جذاب الأسلوب، تناول أخطر مشكلاتنا بأسلوب جمع بين العمق العلمي والسلاسة الأدبية، مما يجعله مستحقا لأن يقرأه المهتمّ بهموم الوطن، وأن يوضع في مكانة محترمة لائقة بين الأعمال المؤثرة حقا في قارئها، ونظرته للمجتمع المصري، بكل ما فيه من مشكلات وأزمات قوية.